احتضن مقر حزب التقدم والاشتراكية، منتصف الأسبوع الماضي، ندوة هامة جدا عن دور الفن والإبداع في محاربة خطاب التطرف والكراهية، اللقاء الذي نظمه مركز وعي للدراسات والوساطة والتفكير، استضاف عددا من الفنانين والإعلاميين والباحثين والسياسيين، لمناقشة الموضوع بكل أبعاده وزواياه المختلفة.
تكتسي مواضيع التعصب والإرهاب والتطرف الديني العنيف وخطاب الكراهية، أهمية دالة اليوم، على الصعيدين الدولي والوطني، نظرا لحالة العنف والكراهية التي شهدت صعودا في العقود الأخيرة ولازالت، نتيجة الدور الذي لعبته التنظيمات المتطرفة والعنيفة، مسهمة في حالة من الفوضى والاضطراب في عدد من الدول على اختلاف انتماءاتها الجغرافية والدينية والمرجعية، وأيضا لوجود خطاب ديني وتراث فقهي، يدعم أطروحته، ويعد مرجعا فقهيا وعقديا دالا لأتباعه، يقف على أعتابه دعاة وفقهاء وعلماء، يقاومون أية محاولة لتجديده بما يتوافق ورؤى العصر.
تعددت المداخل الإصلاحية لتجديد الخطاب الديني وخلق نوع من القطيعة الإبستيمولوجية مع التراث الفقهي، إلا أنها لاقت موجات من الاعتراض والتخوين والتكفير، شكلت باعثا لتجديد حضور وبروز التنظيمات العنفية، لما لها من تأثير دال على بناء المرجعيات الدينية والتصورات المعرفية والعقدية والمذهبية، وهو ما يسهم في إنتاج قيم تاريخانية تتعارض والقيم الإنسانية والكونية، كثقافة التسامح والتعايش والقبول بالآخر، عوض قيم التعصب والكراهية ونبذ ومحاربة الآخر.
كما سعت الحكومات الدولية ومن بينها المغرب، إلى وضع إستراتيجيات لمكافحة التطرف الديني العنيف، وقد انخرط المغرب بقوة في هذا المشروع، منذ الأحداث الدامية التي شهدتها الدار البيضاء سنة 2003، حيث ينتهج المغرب إستراتيجية فعالة في التعاطي مع الظاهرة، تقوم على ثلاثة مستويات أساسية، ترتبط الأولى بالمستوى الأمني، من خلال تفكيك الخلايا الإرهابية وعقد الاتفاقيات الأمنية وغيرها، أما الثانية فترتبط بالمستوى الديني من خلال المجهودات المتواصلة في إصلاح الورش الديني ببلادنا، ثم الثالثة والأخيرة، فهي مرتبطة بالمستوى السوسيو اقتصادي والتنموي.
وعلى الرغم من الأثر الدال والبالغ الذي لعبته هذه الاستراتيجية في الحد من المسلكيات العنفية، إلا أنها تبقى قاصرة من حيث النفاذ لعمق المجتمع وثقافته، خاصة مع توالي قيم اللاتعايش والكراهية، وهو ما يستلزم خططا إبداعية، تفوق ما هو أمني وديني وتنموي إلى ما هو فني وإبداعي وثقافي، من خلال مداخل الفنون الجميلة والسينما والمسرح والرسم والرواية، باعتبارها مجالات إبداعية مسهمة في تهذيب السلوك، والارتقاء بالأخلاق، ولها تأثير على ثقافة المجتمع ونهضته وتقدمه. هذا الدور التنويري والتوعوي عبر مدخل الفن، يتمثل أساسا من خلال الفاعل الفني بمختلف مجالاته الإبداعية، عبر محاكاة الواقع المجتمعي بأسلوب فني وإبداعي يعالج الظواهر الاجتماعية ذات التأثير الانعكاسي على ثقافة المجتمع وقيمه التسامحية، ويفضح منتسبيها ويبرز للمتلقي جوانبها السلبية، خصوصا الظواهر ذات العلاقة بالتطرف والتعصب والكراهية والخطاب الديني الراديكالي. وهي مواجهة بين مرجعيتين قيميتين مختلفتين، إحداها تدعو إلى الحب والوئام والتسامح والجمال والحياة، والثانية ترنو دمار البنية الاجتماعية والعنف والتعصب والكراهية.
لكن الملاحظ في الواقع أن الفن بالمغرب لم يلعب بعد هذا الدور، وأن الأعمال الإبداعية التي تعالج هذه الزوايا قليلة بل نادرة، رغم ما عاشه المغرب من أحداث إرهابية طيلة العقود الماضية، ورغم الخلايا التي لا زالت تقع في قبضة الأمن إلى اليوم، ورغم مئات المغاربة الذين التحقوا ببؤر القتال بالعراق وسوريا، ورغم نزعات التطرف التي تبرز في كثير من الخطابات الدينية، لا نجد في مقابل كل هذا تناولا فنيا للموضوع، أين هي الأفلام السينمائية التي عالجت تيمة الإرهاب والتطرف؟ كم هو عدد السلاسل التلفزية التي سلطت الضوء على هذا الخطر؟ ما هي العروض المسرحية التي قربت الجمهور مما يحدثه هذا الفكر من مآسي وكوارث؟ أين هم كتاب السيناريو والمؤلفون من كل ذلك رغم أن ما عرفه المغرب من أحداث إرهابية يكتنز مئات القصص والروايات التي بها من عناصر الدراما ما يتجاوز الخيال والإبداع؟ بل أين هم مؤلفو الأغاني والمغنون والمطربون من دورهم في التحسيس والتوعية بهذا الشر المستطير؟ لماذا يتهيب كل هؤلاء من اقتحام هذا الموضوع وتناوله؟ لا أجد صراحة أي جواب منطقي لذلك.
إن الدعوة لتحقيق المكانة السوية للفنون في المجال الثقافي والمجتمعي، هي دعوة لإعادة موضعتها ضمن أولويات المجالات التدخلية المستهدفة لقيم المجتمع وثقافته، أي ضرورة التفكير في إعادة صياغة السياسة الثقافية بتمكين مجالات الفنون والإبداع من مواقع متقدمة إلى جانب المدرسة والأسرة، باعتبارها مؤسسات ومجالات تدخلية في التنشئة الاجتماعية والتربية على القيم، وهذا دور منوط بالفاعل الفني بدرجة أولى، فالدعوة مفتوحة إذن، والمادة الخام متوفرة، تنقص فقط الإرادة للتفعيل، ولسنا بأقل من دول أخرى كمصر وتونس لإنتاج أعمال في المستوى المأمول، تحارب التطرف المحلي بأدوات محلية وثقافة محلية، وأنا جد متأكد أنها ستنال كل النجاح المطلوب.
< بقلم: محمد عبد الوهاب رفيقي