يجمع معظم المتابعين والمهتمين بشأننا التعليمي الوطني أن العلاقة بين الوزارة والمدرسين المضربين توجد في مأزق حقيقي، وتبعا لذلك المدرسة العمومية برمتها توجد اليوم في لحظة صعبة جدا، وهي ضمن أسوأ مراحلها، بحسب الكثيرين.
لقد عاشت المدرسة العمومية في السنوات الأخيرة على إيقاع سلسلة إضرابات وتوترات نجمت عنها سلسلة توقفات في الدراسة، وهذه السنة تفاقم الوضع، وانطلق التوتر مع بداية الموسم الدراسي ما تسبب في ارتباك مقلق للعملية التعليمية.
إضرابات هذه السنة تسبب فيها الخلاف الحاد حول النظام الأساسي، ولكن قبل ذلك وقع توتر آخر حول قضية ما عرف بالمتعاقدين، وكل هذا كرس سجالا كبيرا وحادا حول الوضع الاجتماعي العام للمدرسين والمدرسات، وحول ظروفهم المادية والمهنية وضعف إحساسهم بالأمن الوظيفي…
وداخل هذه المنغلقات وجدت أسر التلاميذ نفسها ضحية ورهينة، وبات مستقبل التلاميذ مهددا، وتم المس بحقوقهم في التعلم، وبالمساواة في الولوج إلى التعليم بين أبناء المغاربة، ومن ثم صارت المشكلة أكبر من كونها قطاعية ونقابية، وتحولت إلى مشكلة أفرزت مأزقا حقيقيا يسائل اليوم المجتمع، ويعني عددا كبيرا من الأسر المغربية.
نحن إذن أمام وضعية غير طبيعية فعلا، وزاد من تعقيدها افتقار الحكومة، بشكل واضح وغريب، للنظر السياسي الذكي قصد معالجة الوضع وتأمين سير عادي ومنتظم للدراسة، وتلبية حق أبناء المغاربة في التعليم.
قد يكون وزير القطاع ممتلكا لحسن النوايا وإرادة الإصلاح، ولكن قضية معقدة ومركبة مثل المسألة التعليمية وواقع ومستقبل المدرسة العمومية لا يمكن أن تحل بالنيات الطبية، مهما كانت صادقة، ولا تأتي الحلول عبر دعوة المضربين «يديرو النية» أو التحلي بالثقة، ولكن الأمر يقتضي إبداع منظومات قانونية تكفل إيجاد مخارج مقنعة لكل الأطراف، وتقتضي هندسة قوانين تستحضر الحقوق والواجبات، وتوفر التشجيع والتحفيز على العطاء والإبداع، وتقتضي، قبل التشريع، امتلاك النظر السياسي الرصين وحسن قراءة الواقع الميداني، وذلك لكي يتحقق النجاح في إبداع الحلول الممكنة للمعضلات.
أزمة إضرابات التعليم كشفت، مرة أخرى، عن ضعف حضور السياسة في عقل الحكومة الحالية، وأدت سلسلة الإضرابات، التي لا تنتهي، إلى مأزق حقيقي من تداعياته السلبية اليوم حرمان عشرات الآلاف من التلميذات والتلاميذ من حقهم في الدراسة، ويسود اليوم في أوساطهم ولدى أسرهم الكثير من الغموض والقلق حول مستقبلهم التعليمي.
هذه الوضعية تتطلب اليوم تفكيرا شجاعا وحوارا صريحا بين كل الأطراف انتصارا لحقوق أبناء شعبنا من الطبقات الفقيرة والمتوسطة، وحرصا، في نفس الوقت، على تحسين وتطوير الأوضاع المادية والاجتماعية والمهنية والإدارية للشغيلة التعليمية، وبالتالي الوصول الى بلورة وإعمال تدابير جدية ناجعة وحلول مستعجلة تنبني على قراءة سياسية موضوعية وحكيمة لما وقع، وللأفق الذي تهددنا الوضعية الحالية ببلوغه.
سؤال المدرسة العمومية اليوم يجب أن يطرح في شموليته، ويستحضر ما بلغته من تراجع وتدن على مستوى الجودة والمساواة والإنصاف وأيضا ما يرتبط بجاذبيتها العامة.
هذا السؤال يفرض كذلك مخططا استعجاليا شموليا لتحقيق النهوض العاجل، بدل كل الفرص التي جرى تضييعها منذ سنوات، وأيضا الميزانيات الضخمة التي صرفت وبذرت بلا حساب، ودون أن يتحقق من ورائها الحل.
بداية تغيير الطريق توجد اليوم في وقف ما يحيط بالمدرسة العمومية من احتقان أدى بالبلاد كلها أن توجد في مأزق حقيقي.
من جهة أخرى، كشفت لنا سلسلة إضرابات التعليم عن النتائج التي تسبب فيها الإضعاف الممنهج للنقابات، وهو واقع بقدر ما أفرزته الضربات المتتالية التي تلقتها النقابات التاريخية طيلة سنين، فقد تسببت فيه كذلك أخطاء الممارسة النقابية الذاتية والعقم التنظيمي والانحسار الإشعاعي والتشتت النقابي والتدجين والاحتواء والتبعية، وكل هذا أفرز لنا اليوم عديد تجليات تحنيط وضعف في الممارسة النقابية، مما قاد، بديهيا، إلى تنامي أشكال نضالية واحتجاجية أخرى من خارج هياكل النقابات، وتراجعت مستويات الثقة في العمل النضالي المنظم.
وهذا جانب آخر من المأزق لا بد من التفكير فيه والانكباب على معالجة تحدياته بكثير من العمق والشجاعة والتنازلات المتبادلة.
الشروع إذن في تخفيف حدة الاحتقان الواضح اليوم في صفوف المدرسات والمدرسين يفرض على الحكومة أن تتخلى عن بعض أنانيتها، وأن تنظر إلى الواقع الميداني كما هو، وأن تحرص على الوصول إلى قوانين متوافق عليها تكفل استعادة الثقة والأمان، وبعد ذلك تباشر إجراءات شمولية مستعجلة لتدارك ما خلفته الإضرابات من تأخر ومعاناة للتلاميذ وأسرهم، وأيضا أن تطرح سؤال المدرسة العمومية بشكل جدي وجريء من مختلف جوانبه لبناء مقومات انطلاقة متجددة.
أما الإصرار على الهروب إلى الأمام والالتفاف على المشاكل دون مباشرتها بعمق، فلن يحقق لنا شيئا، وسيتواصل المأزق، وربما ستتفاقم آثاره على المجتمع، وعلى البلاد كلها.
محتات الرقاص