النموذج التنموي الجديد..نحو مغرب أفضل

يطمح النموذج التنموي الجديد، الذي يندرج ضمن منطق القطع مع الماضي، والذي رفع بشأنه تقرير إلى جلالة الملك محمد السادس في أوائل يناير 2021، لأن يشكل قاطرة للتنمية الاقتصادية للمملكة، بما يضمن تحقيق نمو مستدام والاستجابة بنجاعة لمختلف انشغالات المجتمع المغربي.
ضمن هذا السياق كان جلالة الملك محمد السادس قد أكد في الخطاب السامي الذي ألقاه أمام أعضاء مجلسي البرلمان بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الثانية من الولاية التشريعية العاشرة في أكتوبر 2017، أنه “إذا كان المغرب قد حقق تقدما ملموسا، يشهد به العالم، إلا أن النموذج التنموي الوطني أصبح اليوم، غير قادر على الاستجابة للمطالب الملحة، والحاجيات المتزايدة للمواطنين، وغير قادر على الحد من الفوارق بين الفئات ومن التفاوتات المجالية، وعلى تحقيق العدالة الاجتماعية”.
ومن أجل تمكين الاقتصاد المغربي من تحقيق إقلاع حقيقي، تم إحداث  اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي التي عهد إليها بمهمة نبيلة، تتمثل في إجراء تشخيص دقيق وموضوعي للوضعية الحالية بالبلاد، وتحديد جوانب القوة والاختلالات التي يجب معالجتها، بما يمكن من رسم ملامح نموذج تنموي جديد غير مسبوق، يضمن للمواطنين حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية الأساسية، على غرار حقوقهم المدنية والسياسية.
وتتجلى خصوصية هذه اللجنة في القيام بمهمة ثلاثية، تتمثل في إعادة التقويم  ضمن منهجية استباقية واستشرافية من أجل تمكين البلاد من الاتجاه نحو المستقبل بكل ثقة، مع الاعتماد على مختلف المكاسب التي حققها الاقتصاد المغربي خلال العشرين سنة الماضية والأخذ بعين الاعتبار التوجهات الرئيسية للإصلاحات التي تم تنفيذها في مختلف القطاعات، لاسيما التعليم والصحة والفلاحة والاستثمار والنظام الضريبي.
ولهذه الغاية، نظمت اللجنة 70 جلسة استماع و113 ورشة عمل و35 جلسة استماع مواطنة عقدت في مختلف مدن المملكة، و تنقلت إلى أكثر من 30 موقعا، فضلا عن انشاء نظام طموح للإطلاع على انتظارات المواطنين وانشغالاتهم الرئيسية في مجال التنمية، وكذا اقتراحاتهم من أجل مغرب أفضل، على كافة المستويات.
أما في مجال العدالة الاجتماعية والمجالية، فقد كشفت جلسات الاستماع مركزية مواضيع الصحة والتربية والحماية الاجتماعية لدى المغاربة، مع انتشار الشعور بعدم المساواة المجالية، إضافة إلى رفض منطق “المساعدة “.
وبخصوص الحريات العامة، سجل الأشخاص الذين شملتهم الاتصالات ، اختلالات  مختلفة، مثل ضعف الحكامة الجيدة (الرشوة ،  اقتصاد الريع، تضارب المصالح). كما لوحظ عدم كفاية الدعم المقدم للثقافة والابتكار والتنوع الاجتماعي والثقافي، فضلا عن ضعف المشاركة في التسيير العمومي، مع تقوية أدوات الرقابة والإشراف على وجه الخصوص.
وقد حث  جزء كبير من السكان أيضا على تخليق الحياة العامة، وذلك من خلال تجسيد مبدأ المساءلة، باعتباره مبدأ أساسيا للحكامة الجيدة، ويشكل أحد دعامات نظام ديمقراطي حقيقي وناجع. وفي ما يتعلق بالتنمية الاقتصادية، ركزت جميع الانتظارات على جعل الاقتصاد في خدمة المجتمع وتحسين الإنتاج الوطني.
كما أن العديد من المؤسسات ساهمت في الجهود التي بذولت من أجل وضع تصور لهذا النموذج، لاسيما المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي الذي نشر تقريرا في هذا المجال، والذي أكد فيه أنه على الدولة أن تضمن توفير رعاية صحية جيدة، تغطي كافة التراب الوطني، وتؤمن حقوق المواطنين في عدالة نزيهة وموثوقة وناجعة لحماية كرامة المتقاضين وحرياتهم وحقوقهم الأساسية، وتضمن حق المواطنين في خدمة نقل عمومي جماعي آمنة وذات جودة، علاوة على أنها يجب أن تكفل الحق في الولوج إلى سكن لائق وحياة كريمة، مع إعطاء الأولوية للولوج إلى الثقافة والرياضة، من خلال الاستثمار في البنية التحتية والتجهيزات وتنمية المواهب.
وينطبق نفس الشيء على المعهد الملكي للدراسات الإستراتيجية الذي ساهم بدوره في تجديد النموذج التنموي، وذلك بفضل تقريره الاستراتيجي 2020/2019، والذي سلط فيه الضوء على دعامات رئيسية، تتجلى، بالخصوص، في ضرورة وضع الإنسان في صلب التنمية، وحماية الطبيعة، والمساهمة في حماية كوكب الأرض.
من جهة أخرى، فإن الأزمة التي سببها وباء كوفيد -19، والتي شلت الاقتصاد الوطني والدولي، أخرت الموعد النهائي لتقديم تقرير النموذج التنموي الجديد، لاسيما أن هذا الوباء أثر على قطاعات معينة توجد في صلب أولويات المواطنين، خاصة الأمن الصحي والسيادة الاقتصادية والتصنيع والتحول الإيكولوجي.
وفي معرض حديثه عن هذا الموضوع، أكد الخبير الاقتصادي مهدي الفقير، في تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء، أن النموذج التنموي الجديد يشكل “خلاصا” بالنسبة لجميع المغاربة، على اعتبار أنه يطمح إلى أن يكون حلا لمختلف الإشكاليات وأن يصحح الاختلالات الهيكلية التي تعاني منها الدولة منذ عدة سنوات.
وأكد أن هذا النموذج يجب أن يأخذ بنظر الاعتبار  عدة أبعاد، لا سيما على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والمجتمعي، ولكن أيضا على المستوى المجالي، من خلال السماح للجهات التي تنتج أكبر قدر من الثروة، بتوزيعها بطريقة متوازنة مع الجهات التي تواجه صعوبات، مع الاستفادة من معالم القوة في كل جهة، مشير ا إلى أنه على المستوى المؤسساتي، يجب ترسيخ اللامركزية، وتجديد العرض السياسي، واستعادة وتعزيز ثقة المواطنين في المؤسسات، علاوة على أن الهيئات المنتخبة تظل ضرورية لتحقيق النموذج التنموي الجديد.
وقال الفقير “لا يمكننا تصور رؤية استراتيجية لنموذج تنموي جديد دون الأخذ بعين الاعتبار التفاوتات وعدم التوازن بين الجهات، ولن يكون للجهوية الموسعة معنى إلا إذا أضحت الجهة قاطرة حقيقية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية”.
وأكد أن “تحقيق النمو يمر عبر تحسين وتطهير مناخ الأعمال وإنشاء هيئات تنظيمية عمومية من أجل وضع القواعد الضرورية  التي يجب أن تحكم الأداء السليم لاقتصاد السوق لتجنب جميع أنواع التجاوزات “، مذكرا بأن المقاولات الصغرى والمتوسطة تمثل 95 في المئة من النسيج الاقتصادي الوطني، ومن هنا تأتي الحاجة إلى إدراك الرهانات والفرص التي ترسم مستقبلها.
على الصعيد الضريبي، قال الخبير الاقتصادي إنه أضحى من الضروري تعزيز التوازنات المالية من خلال إصلاح ضريبي يوسع الوعاء الضريبي، مما سيمكن من إعادة ضخ موارد مالية في النشاط الاقتصادي، وبالتالي مكافحة الغش والتهرب الضريبي.
أما على المستوى الدولي، فقد أبرز الفقير أن المغرب تمكن من الحفاظ عموما على اتجاه إيجابي في ظرفية دولية تتسم بعدم اليقين، كما احتفظ دائما على نفس الشركاء الأجانب، ولا سيما الاتحاد الأوروبي وإفريقيا، الذين يقدمون شراكات (رابح – رابح).
وما فتئ المغرب يبدي التزامه، منذ عدة سنوات، بخدمة التنمية المستدامة في ظل القيادة الرشيدة لجلالة الملك محمد السادس، وخاصة في مجالات حكامة الموارد الطبيعية وحماية التنوع البيولوجي، ومكافحة التغيرات المناخية.
واحتلت قضية البيئة، التي توجد في صلب السياسات العمومية، مجددا واجهة النقاش العام من خلال تقرير اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي، التي تفضل جلالة الملك بإحداثها في نونبر 2019 لإطلاق مشروع غير مسبوق يروم بناء مجتمع مزدهر، منفتح وقوي بتعدديته وتنميته وبجماعاته الترابية المتصدية لمختلف تحديات الحاضر والمستقبل.
إن التركيز على الاستدامة كأساس لخيارات التنمية يتماشى مع ضرورة تثمين الرأسمال الطبيعي وضمان المحافظة عليه للأجيال الحالية والمستقبلية، كما تؤكد على ذلك اللجنة، التي تدعو إلى تعزيز حكامة الموارد الطبيعية.
ولتحقيق هذه الغاية، تعتبر الأستاذة بجامعة محمد الخامس بالرباط، أسماء العرباوي، أنه بات من الضروري تثمين وحماية الأنظمة البيئية ذات الهشاشة، وخاصة السواحل والواحات والجبال والغابات والمناطق الرطبة، وذلك من خلال تبني مقاربة للتدبير الجماعي إلى جانب العمل الذي تقوم به السلطات العمومية.
وأبرزت العرباوي أنه ينبغي على الدولة أن تتبنى نظاما ضريبيا بيئيا وطاقيا عادلا ومحفزا يمكن من الحفاظ على البيئة وعقلنة استهلاك الموارد المائية والطاقية، مشددة على ضرورة تحديث النظام التشريعي المعمول به وخاصة ظهير 1917 (حق استغلال الموارد الطبيعية والغابات) وظهير 1976 (استغلال الموارد الطبيعية من قبل الجماعة القروية دون عوض).
وقد كانت مسألة حماية التنوع البيولوجي والأنظمة الإيكولوجية الغابوية، باعتبارها رافعة أساسية لسياسة الاستدامة، في صميم انشغالات اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي.
وفي هذا الصدد، توصي الأستاذة الجامعية بالإسراع بتنفيذ برامج التكيف مع التغيرات المناخية المتعلقة بالقطاعات التي تعتبر الأكثر هشاشة، ويتعلق الأمر بالمياه والغابات والفلاحة، لافتة إلى أن هذه البرامج تتمحور حول حماية الساكنة وأنظمة الإنتاج والتراث اللامادي للمغرب.
وتعتبر إشكالية المياه، بدورها، من أكثر القضايا إلحاحا التي يتعين معالجتها من خلال مقاربة تدمج بشكل كامل ندرتها وتعطي الأولوية للحفاظ على هذه المادة الحيوية على المدى البعيد، بالنسبة للأجيال الحالية والمستقبلية.وفي هذا السياق، تدعو اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي بإحداث وكالة وطنية لتدبير الماء.
وترى العرباوي أن هذه الوكالة، التي يجب أن تكون مندمجة ويتسم عملها بالعقلنة والاقتصاد والاستدامة، ستتعامل مع تدبير الموارد المائية في أبعاده المختلفة، خصوصا الإدارية والتقنية واللوجستية.
كما ذكرت بأن التقرير شدد على الحاجة إلى تحسين استغلال كافة إمكانيات الاقتصادين الأخضر والأزرق، بما يتيح خلق القيمة في كافة أنحاء التراب الوطني.
وتشجع اللجنة على تبني استراتيجية موجهة للاقتصاد الأخضر ويتم تطبيقها على المستوى الترابي، مع التركيز على منطق الاقتصاد المحوري الذي يدمج الخصائص والإمكانات المحلية. ولهذا ينبغي إيلاء اهتمام خاص لتطوير الفروع الصناعية الخضراء في مجالات الطاقة الشمسية والريحية، والتطهير السائل وتدبير النفايات.
ويرى رئيس معهد الدراسات السياسية والاقتصادية بإيطاليا دومينيكو لوتيسيا أن النموذج التنموي الجديد، الذي حظي بإشادة المجتمع الدولي، ويمثل نقطة تحول في مسار التنمية وتطوير الاقتصاد الأخضر، يعد مثالا يحتذى به لباقي بلدان إفريقيا وللمنطقة المتوسطية وكذلك لأوروبا.
وأبرز لوتيسيا أن المغرب، أثبت مرة أخرى من خلال هذا النموذج التنموي، أنه بلد عصري يتطور باستمرار ويشهد دينامية تنموية سوسيو اقتصادية.
من جهته، أكد الخبير البرازيلي ماركوس فينيسيوس دي فريتاس، أن الأمر يتعلق ب ” مرحلة مهمة من تعبئة المجتمع المغربي التي تلوح في أفق 2035، إنها حلقة جديدة في ملحمة هذه الأمة”.
إن النموذج التنموي الجديد، الذي يتم تجسيده طبقا للتعليمات السامية لجلالة الملك، يندرج ضمن أفق بعيد المدى وفي سياق المسار التاريخي للدولة المغربية الذي يتيح، عبر الارتكاز على الماضي التليد وكذا الأمس القريب، فهما أفضل للحاضر والتوجه نحو المستقبل.
ويتطلب ضمان مستقبل آمن للأجيال المقبلة، وهو الهدف ذو أولوية في هذا الورش الملكي، من كافة الفاعلين بالمجتمع التفكير بشكل مستدام وأخذ هذا البعد بعين الاعتبار وبالتالي فإن العمل المواطن والسياسات العمومية والاستثمارات الخاصة مدعوة للالتزام بهذه الرؤية الملكية الاستباقية والشاملة والمستدامة.
ومما لاشك فيه فإن النموذج التنموي الجديد، يشكل علامة فارقة جديدة في الصرح المؤسساتي للمملكة، وبهذا المعنى سيساهم في ترسيخ الإنصاف والعدالة الاجتماعية والسياسية، كما سيترك بصمته في الانطلاقة الجديدة للاقتصاد المغربي.

Related posts

Top