بالرغم من طغيان نبرة التشاؤم على حديث محمد برادة، الصحفي والمدير العام السابق لشركة “سابريس”، حين مقاربته لسؤال “الصحافة اليوم.. هل ستختفي الصحافة الورقية”، ووصفه واقع حال القطاع بالمتردي بل والقول “إنها تحتضر”، سرعان ما استدرك، ليبث بين ثنايا عباراته بعض الأمل في أن يؤدي التفكير في النموذج التنموي الجديد ضمن الرؤية الملكية إلى وضع مساحة للإعلام بما يستحق من مكانة.
في اللقاء الذي نظمه منتدى وكالة المغرب العربي للأنباء، بمناسبة الذكرى 60 لهذه المؤسسة، اختلط في عبارات برادة الحنين إلى إشراقات عرفتها الصحافة المغربية في سنوات ماضية، بالأمل في الانعتاق من أزمة السباق المحموم الذي باتت تفرضه التطورات التي يعرفها الميدان بظهور الصحافة الرقمية، داعيا إلى إعادة الثقة إلى الجسم الإعلامي، ملتمسا إطلاق سراح كل من الصحفي توفيق بوعشرين، مؤسس يومية “أخبار اليوم”، والصحفي حميد المهداوي مدير موقع “بديل”، اعتبارا للمسار الحقوقي الجديد الذي اختاره المغرب الذي تميزه الرغبة في المصالحة وطي صفحة الماضي وتحسين صورة المغرب على هذا المستوى.
وبنوع من الرسائل المشفرة، أشار محمد برادة، في هذا اللقاء الذي حضرته شخصيات وازنة، أن التيمة المختارة، تماثل نقاش الحضارات ونقاش حول التليد والجديد، نقاشات منها المعلن ومنها الخفي، ووراءه ألغام ومصالح، نقاش الموت المعلن والموت البطيء، مشيرا، بنوع من الحنين، إلى ما كانت تمثله الصحافة الورقية في مرحلة معينة من تاريخ المغرب، وإلى التحولات الطارئة التي فرضتها التقنيات الحديثة والتحولات المجتمعية.
واعتبر برادة أن إنقاذ الصحافة مرهون بأهل الميدان، داعيا إياهم إلى التفكير في مناظرة يشارك فيها الحكماء والخبراء والمتخصصون في المجال الإعلامي، المخضرمون والجدد للوصول إلى نتيجة لوضع نموذج تنموي لقطاع الصحافة، قائلا: “لو اجتمعت كل هذه النيات الحسنة، من حكماء، وباحثين ومتخصصين في المجال، سنصل حتما إلى نتيجة، مضيفا بنوع من التدقيق، على أنه “قد لا نتوصل إلى وضع النموذج المثالي ولكن قد نتوصل إلى نموذج انتقالي، في إطار تطور لا يقطع مع الماضي ولكن يبقى واقفا كالأشجار”، في إشارة إلى ضرورة الصمود في وجه العاصفة التي يمثلها التحول نحو التقنيات الجديدة والإعلام الرقمي الذي وصفه بالجريء، والذي لم يعد يحرص على التحقق من مدى صحة الخبر بقدر ما يحرص على ترويج الخبر، حتى بات المواطن يواجه تدفقا للأخبار بل ونوعا من الهجوم أحيانا”.
وبحكم تجربته، أفاد محمد برادة أن الحديث عن النموذج الاقتصادي للصحافة، ينبغي التفكير فيه من منطلق شامل للنموذج التنموي الجديد، بحيث يكون الإعلام “ضمن هذا المخطط الجديد وضمن هذه الرؤية الملكية الجديدة”.
وأشار المدير العام السابق لسابريس، والذي يعد أحد الرواد الأساسيين الذين عاشوا وسط التجربة التي خاضها قطاع الإعلام المغربي، حيث كانت ممارسة مهنة الصحافة نضالية بامتياز، (أشار) إلى هشاشة النموذج الاقتصادي للمقاولة الصحفية اليوم، مبرزا التحول الذي طرأ عليها بحكم مستجدات الواقع، حيث كانت خلال فترة السبعينات والثمانينيات ترتكز على مبيعاتها، إذ تتلقى الدعم من قرائها وتعتمد على الإشهار، لكن اليوم باتت تواجه زحف الإعلام الرقمي، وتغير المستشهرين نحو وجهات أخرى.
ومن وجهة نظر المدير العام السابق لسابريس، فإن الأمر يتعلق بتحولات اجتماعية أفرزت قارئا جديدا له ميولات جديدة، لم يعد يكلف نفسه عناء البحث عن الأخبار، بل باتت هذه الأخيرة تصل إليه بكل سهولة بل تهاجمه في عقر داره، وأصبح القارئ يكتفي بتصفح الصور والفيديوهات ويريد التفاعل المفيد وغير المفيد ولا يبحث عن التفاصيل إلا إذا كان في حاجة إليها.
وأبرز أوجه المفارقة والتناقض التي باتت تسم الوضع الحالي للصحافة، فحينما كان هامش الحرية ضيقا والدعم المادي منعدما كانت الصحافة نسبيا مزدهرة، وحينما أصبح هامش الحريات متوفرا تراجعت، حيث لا تتعدى مبيعات الصحف الورقية مجتمعة 150 ألف نسخة حاليا، قائلا أثناء حديثه بلغة الأرقام، “أشعر بالكثير من الحسرة والعجز والتشاؤم من أوضاع الصحافة”.
وأضاف أن الصحافة كانت مشرقة بنضالها رغم أن رقم المبيعات لم يكن يتعدى 500 ألف نسخة خلال السبعينيات والثمانينيات، مفيدا أن الصحافة في المغرب لم تصل منذ تواجدها مرحلة القمة، ولم تتطور حتى يمكن القول اليوم إنها نزلت، بل تواجه موجة يطبعها تكاثر المنابر الإلكترونية حد التمييع، إذ تجاوز عددها 400 موقعا يلاقي التشجيع المباشر وغير المباشر، وهو طابع يضر بالصحافة الجادة والورقية، حسب رأي برادة.
واعتبر المتحدث أن توفر الإرادة واعتبار الصحافة من الأولويات كفيل بالارتقاء بالقطاع، مشيرا إلى بعض النماذج التي تسعى إلى إنقاذ الصحافة الورقية، كإحداث نوع من التكامل بين الصحيفة الورقية والإلكترونية، حيث يمكن أن يشكل ذلك وسيلة للتعايش.
هذا ولم يفت برادة، باعتباره أحد رواد القطاع، من أن يبدي خلال هذا اللقاء نوعا من الحنين للماضي، حيث كان شغف القراءة يدفع القراء للبحث عن الجريدة وتخامرهم الكثير من الأسئلة عندما لا يجد الصحيفة في السوق. هل الأمر ناتج عن عطب في المطبعة أم هو قرار ما صادر من جهة معينة (أي قرار بالمنع)، وكان الشخص يتأبط الجريدة بكل فخر ويستجدي البائع ليحتفظ له بنسخة، موجها بالمناسبة خلال هذا اللقاء أرفع التحايا لجيل من القادة والصحفيين الرواد الذين بصموا المجال الإعلامي، منهم من رحل وكثير منهم حاليا طريح فراش المرض، وذكر في هذا الصدد الرواد الذين أسسوا برفقته مؤسسة التوزيع سابريس، منهم الزعيم الراحل علي يعته، ومحمد اليازغي وعبد الحق التازي، وغيرهم، داعيا إلى إيلاء العناية بالرواد الإعلاميين الذين يمرون اليوم بمحن صحية، من بينهم الإعلامي عبد الله الستوكي، وحسن العلوي.
> فنن العفاني