بلاغة القبح والألم في رواية “كانِيبَال” للكاتب المغربي مَاحي بنبين

“كانت الرّاهبة بِنيدِكت تقول بأنّني أمتلك خيالاً واسعاً، و يوماً ما سأصِير كاتباٌ.
ماذا سأقول أختاه؟ عمّ سأحْكي؟ البؤس؟ النّاس هنا لا تَرغب في سماع الحديث عنه، و بخاصّةٍ أن تَدفَع ليُرمى به في وجهها. أضافت الأخت بنيدِكت بأنّه بإمكاني إذن الكتابة عن الحُبّ. ذاك اللاّحِق. ذاك الذي هو لله. قلت، ولكن ماذا: نفسُ الله الذي باسمِه ذبِح أبناء [الجزائريّ] قاسم جودي؟
الأخت بنيدِكت هذه، تَكون أحَبّ إنسانٍ إليّ في هذا العالم”. ص.78ـ79.
هكذا كان على بنبين أن يَعصِر ذاكرته حتى يجد مَسوغاً للكتابة في هذه الموضوعة، ومَسلكاً للخروج بهذا النصّ من غير أن يَنصرف عنه قراؤه المفترَضين.. أن يترجِم هجنة وقَرَفَ الألم و القبح إلى أدبٍ رفيعٍ ومَعانٍ إنسانيّةٍ فائقة الجمال.. أن يَصير فقيهاً بلاغيّاً.
وكذلك، اهتدى كاتبُنا إلى ترويض القلم عن نفسه الأمّارة بالعَرى، فجاء هذا النصُّ ـ بنظرنا ـ كأجملَ ما كُتب بين عشرات النّصوص الإبداعيّة المغربيّة في أدبٍ جديدٍ فَتح منافد سرّية لاستغوار دهاليز إنسانيّة الإنسان.. “أدب الهجرة السريّة”.
غيرأنّه، و للأسف، لم يحظ بالمتابعة النقديّة اللاّزمة، وبالتّرجمة إلى لغات ضفّتيْ المَضْيق! والكاتبُ يُمسِكُ جَمرةً حارقةً وهو يُشخّص فيه قذاراتِ العالمِ من قبْحٍ، وألمٍ، وقنوطٍ، واستغلالٍ، وتحرّشٍ، وتعسّفٍ، وتهميشٍ، وعُنفٍ، وإهانةٍ،… من خلال شخوصٍ اختارها بعنايةٍ فائقةٍ من أجناس وجنسيات وأعمار مختلفة لتصوير ملحمة العصر ومَيْسَمه. جمَعها في قارَبٍ ضيّق، ولكنّه يتّسع لمساحاتٍ شاسعةٍ من الأحلام والإستيهامات:
“كان ذلك باللّيل، ليلة حالكةَ السّواد، مختبؤون خلف صخرة. كنّا نسمع ضجيج الأمواج والريّاح عندما قال لنا مُراد بأنّ البحر هادئ. و لقد صدّقناه في هذا الوقت الذي نحن فيه مستعدّون لتصديق أيَّ شيءٍ يُقال لنا على أن نذهب، أبعَد ممّا يَكون، وإلى الأبد” ص. 5.
هكذا يَستهلُّ بنبين روايته موضوعَ تناوُلنا بدون مقدّماتٍ لتجربةٍ عسيرة الولادة و هو يصاحب “الحرّاكة” من المُبتدإ ليعيش معهم آمالهم وآلامهم على مستوى السّرد إلى آخر جرعة ماءٍ مالح. و بأجمَلَ ما تشكّله اللّغة.
لنتأمّلْ هذا الحُلم العابرَ للقارّات:
“أخرَج يارْسي سندويتشاً لم أميّز محتواه. أمّا بخصوصي و يوسف و رضا ، فقد فكّرنا عن بحُسن نيّتِنا في أنّه لا أحسن لنا مِن عَشاءٍ في إسبانيا! “وجبة من الطابا مسقيّةٍ بمشروب السّانْكْرِيّا” هذا كلام مراد الذي لم يَبخل في أن يصف لنا مأكولات الضفة الأخرى:”مرطّبات فواكه غير معروفة في أرض العَرب، أصناف خضر كلّ الفصول، و لحوم طريّة بنكهةٍ فريدة .” ص.21ـ22.
لقد نحَّى الكاتبُ جانباً وهو يُرمِّم أعطابَ السَّفرأسئلة لماذا الهجرة؟ النظريّة، الزئبقيّة، إلى ترصُّد كيفيّاتها المنهجيّة وهو يلازم المهاجر السريّ في حالة تلبّس بين الضفتين.. فهذا “بَفَدْنام” المالي بقوة بنيتة وعزيمته وجبروته، صار ينخرط مع رفاقه في المَركب في أنّه “علينا أن نتمرّن لقادم الأيّام على: تعلُّم الإمحاء، الذوَبان في المجموعة، محاذاة الحائط، تجنّب النظر في الأعيُن، عدم الحديث مع أحد، إقبارَ حبِّه. إدماء قلبِه بالتّجريح، ألا نكون شيئاً: ظِلٌّ غارقٌ في كتلة، كلبٌ مملوك، دُودة قزّ، أو صرصاراً. نعم، أن نتعلّم أن نكون صراصير.” ص.73.
ومن الكيفيات التي يحصن بها المهاجر السري نفسه من الإنهيار الكلي قبل الوصول بالتجربة إلى نهايتِهاـ والتي رصَدها أيضاً الكاتبُ بعيْنٍ ثاقبةـ إحجامَ الحرّاك عن الحديث عن ماضيه. و لو كان ثرثاراً.
هذه بعضٌ من مناهج الحرّاك للإفلات بجِلده من بطن الحِيتان، وبعضٌ من الصّور البلاغيّة للقُبح و الألم والإحتقار:
“بمجرّدِ أن أشعل “رضا” سيجارته، انقضّ عنه الظلُّ (الحارك) فانتزعها منه بشدّةٍ وهو يَعصر شفتيْه. لم يَقم بأيِّ رَدّة فعلٍ رضا. فقط، عاد إلى الارتعاش من البرْد، وصكّ الأسنان. بالقرب منّي تُرضِع نَوارة صغيرها.” ص.6.

Related posts

Top