تجارة المافيات الإجرامية تزدهر في ظل جائحة كورونا

لفتت المافيات الخارجة عن القانون والمنتشرة في الكثير من بقاع العالم الأنظار إليها في الفترة الأخيرة، ليس لأنها توقفت عن النشاط، كما حصل للعديد من القطاعات بسبب قيود الإغلاق، وإنما نتيجة ازدهار أعمالها حيث شكلت علامة استغراب للبعض من المتابعين.
وطورت هذه العصابات نمط خدماتها، التي تشمل التسويق وخدمات التوصل، بحيث لا يمكن تمييز لغة الإعلان، الذي يروج لمنتجاتها المعروضة للبيع عن لغة المئات من بائعي التجزئة الآخرين عبر الإنترنت الذين يرسلون رسائل بريد إلكتروني تسويقية، ولكن عند الغوص في التفاصيل تجد أن ما يثير الدهشة هو أن السلع المعروضة تضم كل من الكوكايين والكيتامين والإكستاسي.
ويؤكد ليندسي كينيدي وناثان بول ساوثرن في تقرير نشرته مجلة فورين بوليسي الأميركية أنه من المنطقي أن يقوم تجار المخدرات في غلاسكو بتكييف استراتيجية التسويق والمبيعات لتلبية احتياجات المستهلكين العالقين في منازلهم أثناء فترات الوباء. وفي حين عانت الصناعات، التي تتم بالاتصال المباشر بالزبائن مثل الضيافة والسياحة من أضرار اقتصادية معيقة، إلا أن الترفيه في المنزل يتضح أنه يزدهر.

تشتيت الانتباه

بالنسبة لجماعات الجريمة الدولية المنظمة، كانت أزمة الوباء فرصة اقتصادية هائلة، وبينما تتوخى الكارتلات وعصابات الاتجار الحذر مثل أي شخص آخر بشأن التفاعل المباشر أثناء انتشار كورونا، فإن هذه المنظمات لا يمكن أن تترك مصالحها فريسة للفشل.
وتستغل كارتلات المخدرات من المكسيك إلى جنوب أفريقيا الأزمة لتوحيد وتنمية أعمالها، وتنويع أنشطتها والقضاء على المنافسة في هذه العملية. وهذا لا يعني بالضرورة أن السوق السوداء تعمل كالمعتاد، حيث مع عزل الكثير من سكان العالم لأنفسهم داخل منازلهم تراجعت المظاهر المرئية للجريمة المنظمة بوتيرة متسارعة.
وكصناعة، يبلغ حجم سوق الجريمة المنظمة ما بين 3.6 و4.8 تريليون دولار سنويا وهي تمثل 7 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للعالم. وتصل قيمة الاتجار بالمخدرات وحدها إلى نحو 652 مليار دولار سنويًا.
وبينما شهدت بريطانيا وفرنسا وبعض من الولايات الأميركية، مثل شيكاغو ولوس أنجلس، انخفاضا في منسوب الجريمة، قامت العصابات بتخزين المخدرات والمال على جانبي الحدود الجنوبية الغربية للولايات المتحدة، كما قال متحدث باسم إدارة مكافحة المخدرات الأميركية استنادا على معلومات قدمها عمال المنازل يؤكدون فيها ارتفاع أسعار الميثامفيتامين والكوكايين والهيروين على جميع مستويات التجزئة والجملة.
وقال المتحدث باسم إدارة مكافحة المخدرات إن هذه علامة على أن الإمدادات قد تنفد رغم أنها أيضا علامة على أن الطلب لم ينقص، فوراء الكواليس، تجد مجموعات تهريب المخدرات حلولا بديلة للتحديات والقيود اللوجستية يعتقد بعض الخبراء أن التجارة هي في الواقع أكثر مرونة بكثير مما يسمح به المجرمون أنفسهم.
وللتدليل على ذلك يستشهد جيسون إيلي من المبادرة العالمية لمكافحة الجريمة المنظمة بقولة قديمة لتشارلز بودلير يقول فيها إن “أعظم خدعة يحيكها الشيطان هي إقناعك بأنه غير موجود”.
ويقول إيلي لقد تمت ملاحظة أن الكثير من المقابلات مع أعضاء كارتلات مزعومين وهم يتحسرون على أنهم أصبحوا ضعفاء، وأنهم لا يمكنهم الحصول على إمداداتهم، وأنهم يخسرون المال، ولكن بالنسبة لهم لا يوجد أفضل من هذا التوقيت الذي يمكن فيه تصوير أنفسهم أنهما ضعفاء بينما يشتتون انتباه الشرطة وإنفاذ القانون.
وأضاف “هذا التوقيت الذي تعاني فيه مراقبة الحدود لأن التركيز ينصب أكثر على الحماية من فايروس كورونا أكثر من الكشف ومراقبة البضائع غير المشروعة؟ وإذا ما هو أفضل وقت لزيادة عمليات البيع والشراء والتركيز على زيادة الإنتاج والتسلل إلى السوق أكثر من وقت أزمة مثل هذه”.
وبعبارة أخرى، فإن إظهار الضعف هذا هو علاقات عامة ذكية، واستمرار لتقليد طويل من عصابات الجريمة التي تتلاعب بالرواية العامة لتحقيق مكاسب شخصية مهمة، وهو ما كان يفعله على أرض الواقع ملك الكوكايين الكولومبي بابلو إسكوبار.
ومن خلال الترويج لعمله الخيري من خلال محطته الإذاعية الخاصة، وتجنيد كاهن بارز للدفاع عنه كمسيحي خيّر، والقيام بحملات ضد انتهاكات الشرطة لحقوق الإنسان للابتعاد عن مهنة القتل والخطف والإرهاب، فإن ما قام به إسكوبار دفع إحدى عضوات مجلس مدينة ميديلين وصفته بأنه “عبقري دعايات، مثل جوزيف غوبلز”.
وكمثال ملموس، كان أعضاء منظمة “ياكوزا” في اليابان، التي أحرجت الحكومة المتعثرة في 1995 عبر تنسيق جهود ضخمة للإغاثة من الكوارث استجابة لزلزال كوبي، أول من وصل إلى الموقع ومعهم أكثر من 70 شاحنة من إمدادات المساعدات عندما ضرب زلزال مدمر آخر الساحل الشمالي الشرقي لليابان في عام 2011.
وفي الوقت الذي يرى إيلي أن مكاسب العلاقات العامة لجماعات الجريمة المنظمة في أي مكان تعد عذرا مفيدا للتلاعب بالسوق من خلال التظاهر بالندرة وتضخم الأسعار، يعتقد مارك غالوتي، المحاضر والكاتب عن الجريمة العابرة للحدود والأمن الروسي، أن الشيء نفسه يحدث في روسيا لأن الهيروين متوفر بكثرة وهناك مخزونات داخل روسيا أو على الحدود في آسيا الوسطى والتي تحتفظ بها العصابات لأنها لا تريد إغراق السوق وخفض السعر.

ضعف المراقبة

عند تسليط الضوء على ما يحدث فإن من الواضح أن عمليات الإنتاج وخاصة الأفيون في أفغانستان وميانمار لم تتأثر، كما تظل الحدود قابلة للاختراق مهما تم تشديد المراقبة، ففي أي مكان يمكن أن تنتقل فيه البضائع المشروعة، يمكن للسلع غير المشروعة أيضا الانتقال.
وبين الفينة والأخرى يتم القبض على بعض المهربين وهم يستغلون حركة البضائع الأساسية، وعلى سبيل المثال اعتقل في أبريل الماضي رجل بولندي كان ينقل شحنتين من أقنعة الوجه بالقرب من مدينة كاليه الساحلية الفرنسية، عندما عثر الضباط على 31 رطلا من الكوكايين مخبأة داخل إحدى الطرود.
ويقول نيل وودز، وهو ضابط سري سابق قضى أكثر من 14 عاما في التسلل إلى عصابات المخدرات في المملكة المتحدة ومدافع عن إصلاح سياسة المخدرات في الوقت الحالي “سأندهش حقاً إذا توقف توريد المخدرات إلى البلاد على الإطلاق”.
وحتى لو تم إيقاف تشغيل كل سفينة عبّارة وسفينة حاويات، وكل شيء تمامًا بموجب قيود جائحة كورونا، فإنه لا “يزال لدينا خط ساحلي هائل لا يمكننا مراقبته في أفضل الأوقات وإلى جانب ذلك، لا يمكننا إيقاف الفساد الذي يساعد على دخول المخدرات”.
ومع تزايد عمليات التوصيل للمنازل لجميع المنتجات في جميع أنحاء العالم، أصبحت مراقبة السلع غير المشروعة واعتراضها تحديًا لا يمكن السيطرة عليه. وتقول فيليا ألوم، وهي محاضرة كبيرة في جامعة باث بالمملكة المتحدة، إن بعض عشائر كامورا في جنوب إيطاليا، المكافئ المحلي للمافيا الصقلية، بدأت في توصيل العقاقير والمخدرات إلى منازل المستخدمين الذين اشتروا منتجاتهم سابقًا في الساحات المحلية.
ويعد التوصيل إلى المنازل هو نموذج توزيع منخفض المخاطر يستخدمه التجار الأكثر حيلة لعقود من الزمان، ولكن قد تكون أزمة الفايروس هي الدافع الذي يحتاجه المستخدمون والتجار للابتعاد تمامًا عن صفقات التسليم في الشوارع.
وينطبق هذا على عمليات التسليم الدولية والمسافات الطويلة. وأوضح ميشا غليني، مؤلف مسلسل “ماك مافيا”، أنه نظرًا لأن شبكات التوصيل بدءاً من “دي.إتش.إل” مروراً بمكاتب البريد و”فيديكس” تعمل بأقصى سعة، فمن الآمن جداً الآن توزيع المخدرات عبر هذه القنوات دون جذب الانتباه. وقال غليني “لا شك في أن الزيادة الكبيرة في النشاط على الشبكة المظلمة منذ بدء الإغلاق ستعزز الأسواق الإجرامية التي تتعامل على شبكات الإنترنت”.
وقالت فاندا فيلباب براون من معهد بروكينغز “المبالغ الضخمة من رؤوس الأموال المتاحة لمجموعات الجريمة المنظمة تعني أن لديهم أيضًا سيولة ضخمة للاستثمار في الابتكار”.
والمقصود بالابتكار هنا هو أن تجار المخدرات لديهم حافز أكثر من أقرانهم المبتكرين مثل أمازون أو أوبر إيتس لتطوير طائرات ذاتية القيادة وتقنيات توصيل أخرى للكميات الصغيرة، والتي لا تتطلب التواصل المباشر.
وفي حين أن الوباء قد خلق الكثير من المعوقات، لكن هذا الاتجاه يتقدم في طريقه من دون توقف، فقد استخدمت المجموعات الإجرامية الطائرات ذاتية القيادة لإلقاء المخدرات في السجون لسنوات، بينما تستخدمها عصابات أميركا اللاتينية لتهريب المخدرات عبر الحدود.
وبدأت منظمة غاليسكو نيو جينيريشن كارتل المكسيكية، التي تتحكم في حوالي ثلث المخدرات التي يتم توريدها إلى الولايات المتحدة، في تسليح الطائرات ذاتية القيادة بمتفجرات سي 4 لتنفيذ ضربات وهجمات ضد أعدائها.
وقالت فيلباب براون، التي توقعت التحول إلى الطائرات ذاتية القيادة والغواصات خلال السنوات العشر إلى الخمس عشرة القادمة “كان المجرمون يتحركون في هذا الاتجاه قبل فترة طويلة من انتشار كورونا مع كل أنواع التجارب والابتكار ومن المرجح أن تصبح تجارة المخدرات هي المجال الرائد”.
وتعمل عصابات الجريمة المنظمة على ابتكار طرق تقصر سلاسل التوريد وتحد من التعرض للمخاطر على طول الطريق وأحد الأمثلة على ذلك هو إنشاء نسخ تركيبية من المخدرات داخل دولة مستهلكة، مثل الفنتانيل كبديل للهيروين وهذا يلغي الحاجة إلى نقل البضائع عبر الحدود، ولكن هناك سبب اقتصادي كذلك.
وتقول براون إن هذه المخدرات تسبب الإدمان، وهو أمر مفيد أيضا للجماعات الإجرامية طالما أنها تمكنت من عدم قتل الكثير من المستخدمين نتيجة للجرعة الزائدة. وبالنسبة لها، فإن هذه معادلة تجارية بسيطة، فالموازنة تتأرجح بين توفير التكاليف وجودة المنتج الذي يمكن أن يصل إلى يد المستهلكين. وقد أكد متحدث باسم إدارة مكافحة المخدرات أن أسعار الفنتانيل كانت الأكثر استقرارا من بين أي مخدرات أخرى خلال فترات الوباء.
ولا تواجه العصابات، التي لا تقيدها مضايقات مثل حقوق العمال ومطالب النقابات والناخبين، نفس المعضلات التي تواجهها الحكومات أو حتى الشركات المشروعة عند اتخاذ قرار بشأن دعم قوتها العاملة أثناء فترات الجائحة.
ويوضح غالوتي أن بعض العصابات الروسية لديها عدد أكبر من العمالة مما يحتاجون إليه بالفعل في كشوف المرتبات، وهؤلاء يرسلونهم في إجازة مؤقتة، بينما الذين يقعون في أسفل ترتيب التسلل معرضون للخطر.
وقال نيل غايلز، مدير الوقاية في منظمة ستوب ذا ترافيك لقد “تراجعت كل أنواع الإتجار بالبشر خلال الجائحة بما في ذلك الإتجار الجنسي، ولكن كان هناك اتجاه نحو ممارسة الجنس باستخدام كاميرا الويب وهذا بالفعل سوق كبير”.
ويعتقد غايلز أن العديد من الأشخاص الذين تم تهريبهم إلى بريطانيا من أجزاء أخرى من أوروبا قد تمت إعادتهم في بداية الوباء، ولكن أولئك الذين بقوا، من المرجح أن يكون قد تم نقلهم إلى مزارع القنب السرية، التي تعد سيئة السمعة لاعتمادها على العمالة الفيتنامية الرخيصة أو إعادة توزيعهم كعمال متعاقدين في الصناعات القانونية مثل إنتاج الأغذية وخدمات التوصيل.
وكلا هذين القطاعين قد سمحا باستقبال المزيد من العمالة من أجل تلبية الزيادات في الطلب ووسط هذه الفوضى من غير المرجح أن يلاحظوا أن دخل الموظف الجديد يتم الاستيلاء عليه من قبل العصابات أو المتاجرين بالبشر.

تنويع الأنشطة

توفر استراتيجيات تنويع الأنشطة التي تتبعها جماعات الجريمة المنظمة أثناء فترات الوباء بعض الأدلة على المكان الذي ربما ذهبت إليه هذه القوة العاملة. وقالت لوسيا بيرد رويز-بينيتيز دي لوغو، المحللة البارزة في المبادرة العالمية لمكافحة الجريمة المنظمة، إن “زيادة الطلب على أقنعة الوجه الطبية تؤدي إلى زيادة في العمل الإجباري، حيث تتدافع الشبكات الإجرامية والمنتجين غير الرسميين للمشاركة في هذا الإجراء”.
وبلغ إجمالي عمليات الاحتيال المتعلقة بكورونا على نطاق صغير في بريطانيا، مثل مبيعات معقمات اليد المزيفة وأدوات الاختبار المزيفة، حوالي مليون دولار في شهر مارس وحده. وقال متحدث باسم الوكالة الوطنية لمكافحة الجريمة في بريطانيا إن جرائم الإنترنت والاحتيال، وخاصة هجمات التصيد الاحتيالي، زادت منذ بداية الأزمة.
وتتوقع الوكالة أن تشهد حالات الاعتداء الجنسي على الأطفال واستغلالهم لتحقيق مكاسب تجارية عبر الإنترنت ارتفاعا رغم أن العدد انخفض خلال الربع الأول من العام الجاري، قياسا بالحالات التي تم تسجيلها في الربع الأخير من العام الماضي. وبناء على الزيادات ربع السنوية في السنوات القليلة الماضية، كانت الترجيحات تصب في تسجيل 4 حالات في أول ثلاثة أشهر من 2020.
ولكن بدلاً من ذلك، كان هناك 2871 حالة فقط، أي 28 بالمئة أقل من هذا التقدير. وكما أوضحت كيت روبرتس من منظمة مكافحة العبودية الدولية، فإن تقليص حجم الخدمات الكبرى جعل من الصعب تحديد الضحايا، في حين أن قيود الإغلاق القانوني والتهديد بالاعتقالات أو الغرامات جعلت من السهل تخويف المتاجرين والعصابات الإجرامية للبقاء بعيدًا عن الأنظار.
وربما ألغت كل من وول مارت، وأمازون تدريجياً بدلات المخاطر للعاملين في مايو الماضي، لكن حساب أمازون على تويتر ظل غارقا في مقاطع الفيديو التي تمجد شجاعة عمالها رغم وفاة بعض موظفي المستودعات بالفعل بسبب كورونا، في حين تفاخرت وول مارت بإعطائها مكافآت إلى “شركاء” مخلصين.
ومرة أخرى، تحذو جماعات الجريمة المنظمة حذو هذه الشركات، ففي ريو دي جانيرو وكيب تاون، نصبت عصابات المخدرات نفسها كحامية للمجتمع، وفرضت قواعد الإغلاق ووزعت طرودا غذائية على العائلات. وفي المكسيك، نشرت ابنة رئيس الكارتل السابق سيئ السمعة خواكين إل تشابو غوزمان مقاطع فيديو على الشبكات الاجتماعية لتصور بعض المساعدات باسم “تشابو” التي تم توزيعها على المجتمعات، لتحذو بذلك حذو حملة وول مارت للمساعدة “مكافحة الجوع، شرارة التغيير”.
ويؤكد إدموند روغ، محرر في ريو أون واتش، الذي ينظم تغطية مجتمعية في الأحياء الفقيرة بالمدينة إن مسألة فرض عصابات المخدرات حظر التجوال حظيت بالكثير من اهتمام الصحافة، لكن لا يشعر أن هذا أمر مضمون. وقال إن الافتقار إلى حكم الدولة في هذه الأحياء الفقيرة يسمح للعصابات بالتعدي، لكن “جماعات المجتمع المدني هي التي تتولى بالفعل زمام المبادرة في نشر حملات التوعية”.

Related posts

Top