الكتابة عن الواقع الافتراضي لشرحه ووصفه ليست بالأمر الهين، ولكنها أصبحت ضرورية لكثرة تداول هذا الموضوع في أخبار الصحف والتلفزيون ومواقع الإنترنت، ولاقتراب دخوله مناحي الحياة ومجالاتها المتعددة، كصفوف الدراسة ومسارح السينما والمختبرات العلمية ومجال الأعمال ومكاتب الشركات وقاعات تدريب الجيوش وغيرها من مجالات الحياة المختلفة.
ما يضاعف من صعوبة شرح الواقع الافتراضي عن طريق الكتابة يكمن في عدم دقة مصطلح “الواقع الافتراضي” المستخدم حاليا في اللغة العربية لوصفه وشرحه والحديث عنه. كلمة افتراضي في حدّ ذاتها ليست دقيقة، وهي نتيجة خطأ في الترجمة أدّى بدوره إلى خطأ آخر، فبما أن الإنترنت أطلق عليها وصف العالم الافتراضي كترجمة غير دقيقة لـ”Virtual World”، ثم شاع من بعد استخدام “Virtual Reality” بالإنكليزية، كان من المنطقي استخدام مصطلح الواقع الافتراضي، وأنا وغيري بتنا نستعمل هذا المصطلح مع أنه غير دقيق، فبدلا من أن يوضح الفكرة للجمهور العربي صار مصدر تشويش لها في مخيلاتهم.
لو اعتمدنا على التجربة والمعايشة المباشرتين لهذه التقنيات والوسائل التي يطلق عليها الواقع الافتراضي، وحتى وإن لم نكن مشاركين في صناعتها وعلى الأقل في تجريبها، لوضعنا مصطلحا أدق لتعريفها يجعل فهمها أسهل أمام الجمهور العربي.
وأعتقد أنه كان من الأفضل إطلاق مصطلح “الواقع التقريبي” بدل العالم الافتراضي، فحتى عندما تبحث في قاموس المعاني العربي تجد أن القاموس يعرفها بهذا الشكل “الواقع الافتراضيّ: الواقع التّقريبيّ، محاكاة يولدها الكمبيوتر لمناظر ثلاثيّة الأبعاد لمحيط أو سلسلة من الأحداث تمكن الناظر الذي يستخدم جهازا إلكترونيا خاصا من أن يراها على شاشة عرض ويتفاعل معها بطريقة تبدو فعليّة”.
يبدو أن تعريف قاموس المعاني صحيح، وكان من المفترض تسميته بالواقع التقريبي، قد يكون من المستحيل أو الصعب تغيير المصطلحات بعد أن أصبح استعمالها منتشرا، ولكن تبقى فرضية تعريفه بالواقع التقريبي هي الأفضل، بوصفه مجموعة من التقنيات والوسائل والأجهزة والبرمجيات التي تقرّب للمستخدم مشاهد وعوالم وتجعله يشعر وكأنها واقع يعيشه. القدماء تخيلوا بساط الريح الذي ينقل من يستقله إلى عالم آخر، أما العالم الواقعي فيفعل العكس إذ يحضر لك هذه العوالم ويجعلك تشعر وكأنك داخلها.
الأكثر شبها حاليا والأقرب إلى الواقع التقريبي هو التلفزيون أو السينما وخصوصا السينما ثلاثية الأبعاد والتي تستخدم الرواية والتمثيل والرسومات والموسيقى والأصوات لتجعل من يشاهدها يشعر وكأنه يعايش واقعا ملموسا، لأن المشهد بفضل هذه التقنية يتحول إلى مشهد أكثر واقعية، ولا سيما حين تضاف إليه أجواء السينما وعتمة صالة العرض التي تعزل المشاهد عن كل ما يحيط به وعن الآخرين، بالإضافة إلى النظارات التي يضعها ليتمكن من مشاهدة الأجسام ثلاثية الأبعاد وكأنها حقيقية.
يعدّ الواقع الافتراضي أو الواقع التقريبي الجيل الجديد من التلفزيون أو السينما ثلاثية الأبعاد، فنظارات الواقع الافتراضي التي يلبسها المستخدم تحكم إغلاق مجال رؤيته ليقتصر فقط على ما يشاهده من خلال هذه النظارات حتى أنه يشعر أن ما يشاهده هو الواقع، وبوجود المشاهد ثلاثية الأبعاد وتقنيات استشعار الحركة الموجودة داخل النظارات يتغير المشهد ويشعر المشاهد وكأنه يتحرك داخل المشهد كلما أدار رأسه في أي اتجاه.
حمل أجهزة تستشعر حركة الشخص تجعل الكمبيوتر قادرا على ترجمة هذه الحركة كتفاعل داخل المشهد الذي يشاهده الشخص، فيبدو وكأنه يسير داخله أو يتفاعل مع المحيط بيديه وباقي جسمه.
الجيل السابق من أجهزة العرض كان يضع المشاهد في زاوية مشاهدة ثابتة أما في الواقع الافتراضي فيمكنك أن تغير زاوية المشاهدة لترى العرض من وجهات أو زوايا نظر مختلفة، قد تجلس في السينما ثلاثية الأبعاد وتشاهد فيلا يبدو واقعيا يتحرك من حولك أو في اتجاهك، أما في الواقع الافتراضي فيمكنك تغيير زاوية المشاهدة، فتشاهد الفيل وتتحرك أنت حوله أو تتفاعل معه ويمكنك أيضا أن تتقمص شخصية الفيل لتشاهد ما يشاهده.
في أفلام المستقبل التي تستخدم تقنيات الواقع الافتراضي ستتمكن من مشاهدة الفيلم عدة مرات كل مرة من زاوية رؤية أو وجهة نظر مختلفة، فمرة وكأنك مجرد مراقب لما يحدث في مشاهد الفيلم وأحيانا من زاوية رؤية أحد الأبطال أو حتى قطع الأثاث.
في المجال التعليمي أو التدريب المهني أو العسكري ستعطي هذه التقنيات أبعادا لم تكن ممكنة من قبل، ستغير فهم الإنسان وتثريه وتجعل من عملية التدريب والتعليم أكثر نجاعة وثراء من أي زمن مضى، وذلك نتيجة تطور وتفوق هائلين مقارنة بما يوجد حاليا أو ما مضى، ففي السابق كان الإنسان يسمع عن أماكن لم يزرها حين توصف له شفهيا من أناس زاروها، ثم أصبح يقرأ عنها أو يرى لوحة مرسومه لها، وبعدها من خلال الصور والفيديو والآن وباستعمال الواقع الافتراضي سيتمكن من الشعور أنه يسير فيها وينظر إلى تضاريسها من زوايا مختلفة.
ستحدث هذه التطورات، نقلة نوعية في شبكات التواصل الاجتماعي، الجيل القادم من هذه الشبكات هو “المعايشة المشتركة” ولن يقتصر التواصل على تبادل الرسائل النصية والصور والفيديوهات والبث المباشر، بل سيتمكن المستخدمون من المعايشة المشتركة كأن يقوموا برحلة سفاري لنفس المكان أو أن تكون بإمكانهم مناقشة ما يشاهدونه أو يتعلمونه عن هذه الأماكن في ما بينهم عن بعد. وإن توفرت لهم أجهزة التفاعل والاستشعار الأخرى سيتمكنون من التفاعل مع بعضهم البعض بحميمية أكثر وأقرب، كأن يذهبوا مثلا في رحلة صيد ويلاحقوا ديناصورا حتى يتمكنوا من اصطياده.
تحوّل منصات التواصل الاجتماعي إلى منصات معايشة مشتركة ستكون له تبعاته الكبيرة على الطبيعة الإنسانية وعلى المجتمعات وتوابع سياسية واقتصادية كبيرة، كلنا نعلم الدور الذي لعبته شبكات التواصل الاجتماعي في التغيرات والثورات التي شهدتها أماكن مختلفة حول العالم وخصوصا عالمنا العربي، ما تنذر به المعايشة المشتركة من خلال الواقع الافتراضي ستكون له تبعات أشدّ تأثيرا وأكثر عمقا، وستبدأ هذه التغيرات بالتأثير على طبيعة الأشخاص وعلاقتهم بالأسرة والمجتمع والدولة. على المدى البعيد ستكون هذه التغيرات إيجابية ولكن على المدى القريب ستنتج اضطرابات وتضع الفرد والأسرة والمجتمع أمام تحديات كبيرة.
رويترز