!”حتى لا يصبح القاضي محل “شبهة

لقد كان دستور 2011 رائدا في تعزيز استقلال القضاء، حيث أصبح سلطة “مستقلة عن السلطة التشريعية والتنفيذية”، وعزز الدستور هذه المكانة بنصه على أن “الملك هو الضامن لاستقلال السلطة القضائية” الفصل 107.
ولم يتوقف الدستور فقط على تكريس القضاء – لأول مرة – كسلطة، بل إنه عزز ذلك بإحداث المجلس الأعلى للسلطة القضائية، الذي يسهر على تطبيق الضمانات الممنوحة للقضاة، ولا سيما استقلالهم، وتعيينهم وترقيتهم، وتقاعدهم وتأديبهم، الفصل 113، وأكد على رئاسته من طرف الملك، إلى غير ما ذكر من النصوص الدستورية الجديدة التي تضمنها دستور 2011.
وكان المأمول أن تشكل هذه المكانة الرفيعة، التي عززت استقلال القضاء، قيمة مضافة، لتقوية الجانب الأخلاقي، وتعزيز النزاهة والاستقامة، كتجاوب مع هذه الرفعة التشريعية، بسلوك قويم، يتناسب مع الوضعية الامتيازية التي أصبحت للقضاء، حتى تبرر اقتناع المشرع الدستوري بضرورة أن تكون للقضاء والقضاة بالأحرى هذه المكانة الرفيعة، وتلك الامتيازات الرمزية، الخاصة والفريدة، التي لا يتمتع بها أي موظف في كل أسلاك وظائف الدولة.
وقد يستغرب الناس ويتساءلون عن الضرورة والغاية التي دفعت المشرع الدستوري إلى السير في هذا الاتجاه بالنسبة للقضاء، وإيثارة بهذه الضمانات المؤسسية، والحصانة الاستثنائية لأعضائه، وهذا الاستغراب ربما مصدره أن بعض القضاة وعامة الناس يعتبرون أن ذلك مكرس لشخص القاضي لذاته كإنسان، في حين أن الحقيقة والغاية من كل تلك الهالة التي تعطى للقضاء مكرسة في كل الحضارات لقدسية العدالة لدى الإنسان منذ عصور، رغم بعض الاستثناءات في التاريخ، والقاضي يكتسب مكانته في الواقع، واحترامه ووقاره في النفوس، بتجسيد روح العدالة ومفهومها الفلسفي والوجداني في حياة الناس.. لأن القاضي، عندما يلبس بدلة القضاء، يسعى لأن يجسد العدالة كمفهوم في الممارسة كواقع في حياة الناس، وبذلك تطمئن له النفوس.
هذه الأوضاع الدستورية التي أصبحت للقضاء، معروفة لدى الحقوقيين والمتقاضين، وما يدفع إلى التذكير بها وترديدها هو ما بدأ يطفو على السطح، من حين لآخر، من خلال بعض الأحكام القضائية وتصرفات بعض القضاة، بطريقة تتنافى مع نبل رسالة القضاء، وتهز ثقة الناس فيه.. ومن أمثلة ذلك أن قاضياً بالنيابة العامة يوجد رهن الاعتقال من أجل تهم بجنايات لها علاقة بمسؤولياته القضائية، وما هي إلا أيام حتى أثار توقيف هيأة قضائية بمحكمة الاستئناف بالدار البيضاء الرأي العام، وتناولته الصحافة بمختلف وسائلها، وعلى صدر صفحاتها الأولى، والأمر يستحق هذا الاهتمام وهذه المتابعة، اعتباراً لما للقضاء من مكانة دينية ودستورية وحقوقية بصفة عامة.
فالقضاة ينوبون عن الإمام في الفصل في قضايا المواطنين المختلفة والتي تهم أموالهم وحرياتهم…
ومن الطبيعي أن يستقطب القرار المذكور اهتمام المواطنين عامة، والحقوقيين بصفة خاصة، لأن المواطن كيف ما كانت صفته الشخصية ووضعيته الاعتبارية، وزير أو غفير، مرتبط أشد الارتباط بالقضاء، باعتباره سلطة لا يستغنى أحد عن اللجوء إليها، بصفة مباشرة أو غير مباشرة.. ولهذا الاعتبار وهذه المكانة، أثار قرار التوقيف رجة عامة، ويزداد الأمر قوة عندما يكون من أسباب ذلك إصدار الهيأة المذكورة لقرار سراح مؤقت لرئيس ودادية “اطلنتيك بيتش”، المدان بعشر 10 سنوات سجنا بتهمة تبديد 25 مليار من أموال أعضاء الودادية المذكورة، بحيث خلف لديهم قرار السراح إحباطاً وغضباً، عبروا عنه بكل وسائل الاحتجاج المشروعة، بما فيها التظاهر في الشارع العام، إلى غير ذلك من التفاصيل والملابسات والشبهات التي طبعت وأحاطت بقرار السراح المؤقت، ووضعية الهيأة القضائية الوظيفية، من المعطيات المحيطة بالقضية، والتي تظافرت لإفقاد قرار السراح “المشروعية” القضائية الواجبة لاقترانه “بشبهات” و”قرائن” ومعطيات… تظافرت وتساندت، مما أعطى لقرار التوقيف الصادر عن الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية المشروعية والفعالية للحد من تناسل المواقف المحتجة والمنددة بقرار السراح موضوع التوقيف، حيث لا مصداقية لانتقاد قرار التوقيف، بحجة أن الهيأة القضائية الموقوفة مازالت محل مساطر وإجراءات قضائية لإثبات ما إذا كانت قد أخلت بواجبها الديني والدستوري والقانوني.
وكيفما كان الحال، واعتبارا لما للقضاء من مكانة، قد تصل إلى “التقديس”، فإنه لا يليق أن يرتكب بعض القضاة ما يمكن أن يمس هذه المكانة، أو يخدش هذه القداسة.
ذلك أن الحق سبحانه قرن الخلافة في الأرض بالحكم بالحق، عندما قال: “ياداوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى، فيضلك عن سبيل”.
وبذلك فإنه بقدر الغيرة على القضاء، والحرص على ضمان استقلاله، وحصانته، وحرمته، فإنه بالقدر نفسه ندين بشدة وبأقوى العبارات كل من يسيء إليه من أعضائه أولا، الذين هم أول من عليه واجب الحرص على طهرانية سلوكه، ونظافة سيرته، ونزاهة وعدالة أحكامه، والحرص على تجنب حتى مجرد الشبهة حوله.
إن المكانة المخولة للقضاء ليست امتيازاً للقاضي، ولكنها قداسة للعدالة. فعندما ينفصل القاضي عن هذه الرابطة، تسقط عنه الحرمة والاعتبار، ويصبح شخصاً عاديا تحيط به الشبهات وتلوكه الألسن، والتفكه في المجالس… فتهتز ثقة الناس في الجميع، مع أن من أساء هم مجرد “شواذ”، لأن المثل العربي يقول: “من لسعه الثعبان يخيفه الحبل”، وبذلك تضيع المصداقية من الجميع، وحينها لا نملك إلا أن نقول: “يا قضاة الحكم يا ملح البلد: من يصلح الملح إذا الملح فسد”؟
وهذا لا ينفي وجود قضاة كرام، يمثلون هيبة القضاء، وقدسية العدالة، وقوة الحق، ونظافة الذمة، واستقامة السلوك، ورقابة الضمير، يسيرون على الصراط المستقيم، كأنهم أولياء الله، يعتبرون إصدار الحكم عبادة، رقيبهم فيه عالم الغيب والشهادة، وفي مثل هذا فليتنافس المتنافسون.

> بقلم: ذ/ جلال الطاهـر

Related posts

Top