عاشت المرأة تاريخا مليئا بالإهمال والتهميش باعتبارها جسدا وملجأ للرجل، أو شيئا منفعلا ومتفاعلا، وليست كيانا فعّالا في الحياة من قريب أو بعيد، لكنّ للشرائع السماوية معاملةً خاصةً في تكريم المرأة، وإعطائها المكانة التي تستحقها داخل الوجود الإنساني، اختلفت هذه المعاملةُ من شريعة لأخرى. بيد أن تكريم المرأة لم يقف هنا فحسب، وإنما تم تكريمها في الكتابة؛ لأنها ظلت زمنا طويلا موضوعا للكتابة قبل أن تغدو كاتبة ومكتوبة، أي حاضرة باعتبارها ذاتا كاتبة وموضوعا للكتابة في الآن. فلما كانت المرأة موضوعا للكتابة اتخذت مكانا كبيرا في الأدب فنظمت حولها القصائد، واتخذت مسرودا قصصيا تارة، وروائيا تارة أخرى.
لقد كان الأدب، ولا يزال، محتفلا بالحضور الأنثوي من حيث تفاعله مع اللغة؛ لأن الأنثوي يمتزج باللغوي، ما يدفع الكاتب إلى استحضار الألفاظ التي تلائم الحضور الأنثوي، وتنقل مشاعره وأحاسيسه حتى يلتقي الأنثوي واللغوي في وجدان الكاتب، وذاكرته وحلمه، ونسيجه السردي الفني.
وهكذا، سنحاول بحث الحضور الأنثوي داخل المجموعة القصصية الصادرة عن دار توبقال للنشر، في طبعتها الأولى: 2020م، حيث تضم تسعَ عشْرة قصةً، ويبلغ عدد صفحاتها تسعين صفحة من الحجم المتوسط، للكاتب المغربي أحمد بوزفور، الغني عن كل تعريف؛ لأننا لا يمكن أن نعرف المعرف أصلا؛ فأعماله تحمل فرادة وخصوصية حفل بها مساره الأدبي الفني، إبداعا ونقدا وتأليفا.
– المرأة والحب: عاشقة ومعشوقة
إن قارئ المجموعة سيتبين أن المؤلف قد وزع قصصه على فصلين: أولهما عنونه بـ “الحب”، وثانيهما بـ “الموت”، ودون أن نقف، حاليا، عند العلاقة بين هذين العنوانين، فإننا سنحاول قراءة المرأة باعتبارها رمزا للحب. فحيثما حضر الحب إلا وحضرت المرأة إنْ في الذاكرة، أو اللحظة، أو الحلم. وبهذا، تأتي المرأة مسرودا في المجموعة، وحضورها تم توظيفه سرديا وفنيا حتى ينقل عبره المؤلف الضمني تصوره وتصنيفه لقيمة الحب، قديما وحديثا وقادما (مستقبلا). ومن ثم، فإن دلالة حضور المرأة وعلاقتها بالحب تختلف من صنف لآخر: فهي في الأول تشارك الآخر الحب والموت، وفي الثاني تضحي بالحب إزاء الموت، وفي الثالث تعيش تيه البحث عن شبيه بالنفس، أو مرآة لها، بمشاعره الفياضة، لكن هذا البحث سيتم في عالم إنساني متصحر وجاف.
– المرأة باعتبارها حلما قاتلا
على أن حضور المرأة لم يقف عند الحب وكفى، وإنما نجدها حلما يظهر حينا في صفة المحبوبة المعشوقة والمتمنعة التي لا تهب نفسها بسهولة، وحينا آخر باعتبارها فكرة تعيش داخل الآخر، أو حلولا في جسده حتى تمارس فعلها في بنية سردية فنية. ففي قصة “القنفذ” تحضر حلما وحلولا بحيث تمارس انتقامها مرتين: أولاهما ممارسته على العاشق الذي “لا يتكلم ولا يجيب”، ويظل “شاردا عن العالم منصرفا إلى شيء آخر لا يعرفه أحد ممن يراه…” (إني رأيتكما معا: ص 11- 12)، وثانيتهما تنتقم وتؤلم أكثر فأكثر حتى يعترف الآخر بسبب انتقامها، ومن شدة وطأة الألم، قائلا: ” لقد بصقت في وجهها وانصرفت… وهي التي تخزني الآن” (نفسه: ص19).
– المرأة باعتبارها أسطورة
كما أن لها حضورا باعتبارها أسطورة يتخذها المرء سبيلا لتحقيق الحلم؛ لأن في قصة “الجارية الزرقاء” مكنت الشاعر من الملك، ونزعته من الخليفة فغدا شاعرا. وهكذا، تتلاعب المرأة بالقدر والأدوار في حدود العمل السردي، وتتم أسطرتها في بنية سردية فنية سلسة تنسج دلالاتها من خلال تفاعلها مع باقي مكونات ومقومات البناء الفني للقصة.
– المرأة بين المدنس والمقدس
إن هذه الهيمنة الأنثوية داخل المجموعة، تمثل احتفاءً سرديا وفنيا بالأنثوي، فهي تارة تحضر جسدا راغبا في الجنس، وساعيا إليه؛ لأن هذا السعي يكون فاعلا ومنفعلا وقد يغدو فعالا، والحضور هنا يدفع إلى “الاستجابة الذكورية التلقائية للأنوثة المتحركة” (ص54)، بحيث يكون الأنثوي متفاعلا مع الذكوري، وتارة أخرى يتداخل المدنس بالمقدس حتى يصبح هذا الأخير نجما مقدسا تعلق عليه الأنثى أمالها، وتنظر إليه باعتباره سبيلا لتلبية رغبتها وبعث الحياة في داخلها، لذلك تتملى بهذا المقدس في الحلم كما نجد في قصة “يا حمام” حيث الشخصية الأنثوية تتشوق لرجل ” ك (سيدي عيسى)” (ص34)، وهذا الاسم يرمز، سرديا وخطابيا، إلى المقدس؛ حيث إنها تلجأ إليه أكثر من سعيها للدنيوي كما نجد في القصة نفسها، حيث تعرض الشخصية الأنثوية عن الذين يشتهونها من الناس. فالسرد في هذا السياق، يمزج بين المدنس (الجنس) والمقدس (سيدي عيسى) من خلال الحضور الأنثوي، لكنه حضور تَمّ تذويبُه داخل البناء الفني القصصي فحرك مسار السرد؛ لأن المرأة تَسرد وتُسرد في الوقت نفسه. كما أن هذا الحضور ضروري؛ كأن في نفس الرجُل مكانا شاغرا إلا من حضور الأنثى، وهذا الغياب الأنثوي قد يدفعه إلى عناق الشجر، أو السرير، أو الحنين والذكرى، أو اللجوء إلى الحلم، أو الإسفلت كما في قصة “رجل عار يعانق الإسفلت”.
– المرأة بين الأمومة والحلم
إلى جانب ما رصدناه أعلاه، نجد أن ثمة حضورا آخر للمرأة باعتبارها رمزا للأمومة كما في قصة “ذلك الولد الغريب”، إذ يتساءل السارد ومن ورائه المؤلف الضمني عن طبيعة هذا الحضور الذي يأتي حلما يدفع الذاكرة إلى الاسترجاع والتذكر، إلى مرحلة الشباب، حتى تختلط الأمومة بالحب الذي كان، وبالحلم أخيرا. فالمرأة، هنا، “تحلم أنها حامل” (نفسه: ص29)، ومن خلال هذه الرغبة في الأمومة، فضلا عما يمارسه البناء الفني بأساليبه وتقنياته المتنوعة، تستيقظ مشاعر الرغبة في الحب لينتهي الاثنان: الأمومة والحب، إلى ظل، إلى حلم، إلى ظل للحلم حتى.
ونافل القول إن قارئ المجموعة سيتبين هيمنة الحضور الأنثوي الذي يحضر في أشكال وأدوار متنوعة بتنوع فنية العمل وسرده ومسروده، فضلا عن سياق السرد والمسرود، وسيتنبه أن العمل السردي قد وظف حضور الأنثوي في صورتين متناقضتين على المستوى السردي، من خلال فعلي الكتابة والسرد، والمستوى الخطابي من حيث انفتاحُ النص على سياقه الخارجي بفعل القراءة: فالمرأة تحب وتكره، تحن وتقسو، تضحي وتنتقم، تقبل وتدبر، تتكبر وتخضع، وتقدم باعتبارها عنصرا بنائيا فنيا في شخصية الأم والحبيبة والزوجة، كما أنها تَعيشُ وتعاش، وتَسرد وتُسرد، وقد تبعث الحياة أو تُطفئ شمعتها، وتغير القدر وتحركه أو تجمده وتوقفه. وهكذا، يمكن القول إن ما يجمع بين الحب (الحياة) والموت هو الحضور الأنثوي في أشكاله وأدواره المختلفة.
وفي الأخير، نؤثر الإشارة إلى أن هذه القراءة تبقى محاولةً من محاولات عدة سيتسع لها صدر العمل؛ لأنه عميق بكلماته، وغني بمعارفه وتصوراته، وممتع بسرده وفنيته، ويجعل قارئه منجذبا لقراءته مرات عديدة، وفي كل قراءة معنى جديد، وإمتاع جديد، ومعرفة جديدة.
> بقلم: محمد الورداشي