رسمت داخل روحي هكتارات بيضاء شاحبة مخطوف ظلها في مهرجان الدمى، هوائي عرائش حب، ولهفتي خيبة شوق، ابتلعتها بفضاء مظلم، عساني أستشعر طعم حلاوتها، تقيدني ملامحي على جدار القدر، فأتعثر في ذكرياتي كلما حاولت المضي قدما، في جنتها أكلت من شجرة تلك الحروف التي استظلت بحطامي، ليتردد صداها كنثر الكون حين تغنت به ثلة الميلاد .
فرتلي يا كنائس صحوي وسرابي وطيف همسي .
أتمنى أن ما يحصل قدر وليس عقابا، فتلك خطاي تعثرت برمل الانتظار، وأنا الراحلة الشاردة في شمس لهفتي، لأتذكر أنني وحدي والليل يحوطني .
أتمنى أيضا أن لا يُقرِئني الليل عتابا، أتمنى أن على زلتي تلك يُطوى الكتاب.
ثم ماذا؟
ثم يختفي ذالك النوم العميق،عين في الرؤى، وسمعٌ على الواقع، أستفيق على صوت ذلك الحلم يُرتِّل حروف ذاك الكتاب، يشع منه النور، ولا يطاله الظلام الذي يبتلعني، خطوات متثاقلة، أسعى لإدراك الدرج المنسي، أفتحه وأسحب المذكرة، وأمسِك ذلك القلم مرةً اخرى، لأفتتِح مقدمة الجنون في تلك الليلة، نَصٌ أكتبه بيدي، لأتيه فيه كل مرة، بحروف تأثيرها كالبخار السام، أُباشر فقدان وعيي كل مرة، ثم ناداني فجأة قدري أن قال :
أوقفي ذلك القلم وارتدي قناعك، ها أنت تعودين مرة أخرى إلى العدم.
كانت أول كلماته وهو يراقبني من تلك المرآة، وفُتح باب الجنون.
أين تتيه الذات مرة أخرى، تكلم بصوت هادئ وقال:
أعلم ما يؤرِّقك هاته الليلة، تقدمي وأخبرني ما الذي ترينه،
أليسَ ما كان يشغل بالك، هو كذلك، لكن ليس بالصورة التي تصورتها، وليس على الهيئة التي تريدينها؟
أنظري إليهم، أليسوا أتباعه؟
أنظري إلى ذلك الختم، كم كنت مضحكة وأنت تتخيله على شكل ندبة كالتي في وجه السماء، هههه، لا تكوني سخيفة، هل تعتقدين أن إدراك ختمها عليهم سيكون بتلك السهولة، وأنظري إلى تلك السلاسل التي تقيده، هل هي حقا كالسلاسل تشدين بها رباط حظك؟
هذا هو عيبك، تقرأين كل يوم حروف تلك الرمادية، تحللين حروفها، وأنت مدركة أنها مجاز، وتفهم ما تقصدين، ولكن هاته الحروف، لا زلت تتعامل معها بسطحية، المجاز في تلك الحروف خارق، وما رأيته للتو كان تجسيدا لذلك الشر الذي كنت تفكرين فيه، جميعكم تتبعونه وأنتم لا تدركون، وقد نجح في غرس تلك الصور فيكم، حربكم صعبة والتمويه أخطر سلاح فيها..
ما الذي تحاولين فعله!!!
لا تتقدمين أكثر، أُثبتي في مكانك سأغادر الآن، ثم سقط القلم من يدي مرة أخرى، وأرتطم بذالك الواقع، وتلك الحروف ترمقني بتلك الابتسامة، والقدر يرتلها من جديد .
كنتِ مأهولةً بكل ما يُثقل القلبَ، لكنه الحب الذي يمنحك ومضة البرق، وخفة الريشة لينسحب بضجيج الكون فعلا.
أعرف أن الكلمات متداولة، شائعة، وتحتَ اليد، غير أنني لا أمتثل لذلك، فالشعر له منطقُه المخاتل، إذ يربت على كتفيك بفخامة الفرسان، ويرسمكِ، في مداره، كأبعد نجمة سقطت على الأرض.
عصفت ريح ذلك العالم مثالبها على الواقع، وظهر جلاد يسوق الحشد الفزِع، فتاه العقل وصار مُصدقا بتنبؤات خناس مارد، صار يُنصت لريح الكهف الخاوي على عروشه، فقط كونُ نفخها صاخبا، بدوا وكأنهم يرقصون على قرع طبول مفاتن تلك الروح الشاردة، دُخلاء ووجوه مألوفة، كُنتُ كصوتِ قانون هادئ، تائهة في الصخب، لا تجذب سوى الهادئ التائه مثلي وسط الصرصَر العاصف.
وها قد حل ذلك الشتاء مرة أخرى، وأتى معه الليل الطويل، ليلٌ تحُل فيه تلك الرؤى ضيفا ثقيلا، أفترش الأرض الدافئة حول الموقد، أستنشق هلوسات مما تنفخه نيراني ولهيبه وألتهِم صفحات من ذكريات.. بات وهج النار يخفُت ويخفت معه ما كنت هائمة معه، أستفيق على صقيع يحتضنني، ويغمر عمقا فيَّ وسط بركة ماء لم أطِق أن أبرحها، فمهما كنت سباحة، صعب أن أسبح في ضيق مشاعري، أنهش وحل حدودي، فخُيل لي أن الأقدار تُمسكني فلا تلبث تفلتني حتى أقع من جديد، لتبدأ رحلة الموت البطيء والبرد يخاطبني رفقا، أهدأ فحسب، ليغمرني الدفء فجأة مرة أخرى، على وقت صوت حلمي يناديني على ملأ الأوعية وشق ساقية من البركة.
لمحت أثار أطراف في حواف البركة، آثار أملٍ في حياة أُخمِدت نيرانها، أتجمد في مكاني، منظرٌ مألوف، رفقا يا ذكريات..
فجأة صرخت روحي: ابتعدي فهنا لقيت مصرعي، ردي بالك أن تتقدمي وارجعي بخطواتك للوراء ..
تبا أين أنا؟
وبدأت تغزوني تلك الأصوات، صراخ، أستيقظ في غرفة إنعاش، على ملمس يدها، وصوتها يشكر الله على سلامتي، لم أعرف من تكون، رغم أثر ما ذرفت من دموع، وكانت بداية الفجوة في ذكرياتي .
تفرغ تارة, وتارة يفيض سيلها في ذلك الليل الطويل، وكلما أتوهم أنها تبتسم تُخيِّب ظني، ما يحصل بعد مسيرة عقل طويلة هي ثورة ذلك القلب الخافق، زلزال فيَّ وأنا هائمة حالمة بنظري وتفكيري, هاربة من شظايا ذلك الحطام أتفادى الإصابات أتعثر في جثت خيباتي، أحاول التسارع بكينوناتي تاركة كل شيء ورائي ومدركة أنني سألتفت لأعود مرة أخرى لتلك الأنقاض، تركض خلفي تلك الذكريات, في تلك الليالي البيضاء التي يغيب عنها النور, أين؟ لن يدركك أحد, لن يشعر بك أحد, كلهم في كونهم عالم منفرد, ذلك العالم الذي ينبعث منه الضجيج وسط كل ذلك السكون, كلهم تائهون مثلك, هي غلطاتك كمثلهم .
لما لا تعودين لرشدك؟ لما لا تحددين مكان انتمائك؟
تَسَلَّقي حائط ذلك القاع, وشاهدي ذلك النور، ذلك الشروق مرة أخرى, ولا داعي لهذا لا تكذبي على نفسك، كل شيء كان واضحا من البداية, لكننا نحب أن نعيش شعور الصدمة, ثم شعور الثقة بأنك ستتجاوز وتنتفض وستنهض وتحارب, تصرخ وتقول مني قليل فأرد عليك كالصدى أنَّهم لم ينقرضوا, ذلك الحي المدفون في داخلك لم يمت, ذلك الشيء الذي خُيل لك أن قتلته في الماضي ظل ينبعث من جديد, أُصمت دعني أتكلم أنا الآن, فقط اعترفي وأخبريهم أن الانبعاث ليس بيديك, أنت من ضل يستحضرك, أليست غلطتك, نعم هي كذلك لا تُنكري, ستبقين تلك الإنسانة بعيوبه, تبحث عن طول بالها وبالها بعيد في حدود الوعي يطوف هناك ..
لِم تتكلم على لساني؟ لست بعيدة حقا, بل أرفض جليسا صاخبا مثلي, أحاول أن أتظاهر بالعقلانية والنفس الصريحة أدرى, نعم أنا أدرى باختصاري, وبكيان حب واحترام فيَّ, أكون لغيري, فلا تستبعدوا أن يتم اختراقي, باحتقار وعلى هيئة الاحتضار أنال نفس المصير مرة أخرى, أبعث في روحي ذلك العراك, لا تطلب النجدة مني وأنا مني هارب, ونفسي مني حائرة, لا تطلبي النجدة وكينوناتك تتضارب فيك, لا تطلبي النجدة مني وأنا وعيك الذي صرت لا أعرفك من تكونين حقا, بل أنت تائهة بنا في ذاتك, فقط أبقى صامتة ولا تصدري ذلك الصوت لتنادي الجميع, وتجلس في باحة العابرين مرة أخرى قد يعجبك ملمس السم, قد يروقك انبعاثه من أصواتهم, أخبروني إلى متى نجلس هكذا, إلى متى سنظل نتسلق كل ليلة الفراغ, السحاب في رأسي بدأ يلامس الأرض, غزاني الضباب, حجب الرؤية عن قلمي وصار يكتب غير واع, لم أدرك بين من كان الحوار, ومن كانت تلك الأصوات, ومن يتكلم, صوت واحد جسد واحد, ينطق بعوالم, كلمات من شخص واحد في نص واحد بدون فاصلة بحروف غير متواصلة, نعم, كنت صامتة, ولا أدري من أين ذلك الكلام؟
يتحرر النورس من جناحيه وتفقد السماء زرقتها في اللانهايات وفي هيأة أغنية تتدلى من عنق الغيب نجمة سقطت على الأرض سهوا.
لو فقط أعلم كم يرميني هذا الليل الطويل في ذاتي؟
تبا.. فلأتوقف قليلا فقط عن التفكير، وانتبه لجرحي السخي وحيدة أنتظرني في عرض الطريق، أنام في موسيقى الأنوار والليل وغفوة العشاق والمارة يعبرون ثم ينتهون في الظلمة
عندما أصلي، سأوشوش في قلبي: اسحبني نحوك وألصقني بك لكي لا أموت في منفاي شدّني كما القوس بقوة واسحبني ما بوسعك وعندما تسمع نداءات الكسر، توقف قليلا، وانظر إلى عيني للمرة الأخيرة، ثم اسحب القوس أكثر ولا تتباهى بالكسر هذه المرة، ودع سهم العمر يمضي حيث مشيئة القلب .
فيا أيّـها الغصنُ لا تنكسر الآن، على خاصِـرتك وردةٌ، ما زالت مؤمنةً بالمعجزات.
بقلم: هند بومديان