بعض وقائع الحياة السياسية وما تكشفه من سلوكات وممارسات ومواقف وإشارات من المهم الانتباه إليها في امتدادها وتواليها وترابطها، وأيضا ما يفضحه كل ذلك من خلفيات، وما يسعى إلى إحداثه من أثر في الواقع.
السياسة، في كل الدنيا وفِي كل الأزمنة، صراع ومصالح وموازين قوى ومواقف وتموقعات، وبالتالي لا مكان في معادلاتها للصدف أو الخطوات المجانية.
بعض مناقشات “محللينا” المفضلين لدى قنواتنا التلفزيونية هذه الايام، “تنظر” للعودة السياسية والمؤسساتية إلى الخلف، ولا يخطر ببالها لا الدستور الجديد ولا المحددات الكونية المؤسسة للبناء الديمقراطي الحديث، ولا تهتم حتى بما قد ينجم من مخاطر جراء التخلي عن مؤسسات الوساطة والتمثيل، أو إضعاف مرتكزات دولة القانون وفصل السلط…
بعض هؤلاء الحاملين لـ “النافخ” لا يخجلون في الدعوة إلى معانقة التيقنوقراط وعتاقة التدبير العمومي، ويركزون “مدافعهم” اللفظية البئيسة على الأحزاب السياسية، وفقط على الوزراء المنتمين إليها، ويستهدفون الفاعل السياسي بكل شتائم التبخيس دون سواه…
هل الأمر مجرد صدفة إذن؟ هل الأمر بريء؟
إن هذا التبخيس المومأ إليه لم يبرز فقط هذه الأيام، وهو ليس محصورا فقط في الهجوم على وزراء أو الركوب على وقائع وممارسة لعبة التعميم الفجة، ولكنه يشمل كل ما له صلة بالأحزاب والسياسة، وذلك منذ مدة ليست قصيرة.
وفِي المقابل، يعرف الجميع أن عديد مشاكل وتحديات واختلالات يعانيها شعبنا اليوم يقف وراءها بالضبط التدبير التقنوقراطي المفتقر إلى التفكير السياسي والحرص الديمقراطي والارتباط بسلطة الانتخاب والرقابة الشعبية والمؤسساتية.
لا يجب هنا فهم الأمر فقط على ضوء الأحداث السياسية الجارية، أو تبعا لما حدث في الحسيمة أو في جهات أخرى على الصعيد الاجتماعي، ولكن يمكن إدراك تداعيات الأمر من خلال الوعي العام لأجيال من شبابنا اليوم، وأيضا من خلال المستوى العام لاستحقاقاتنا الانتخابية، كما يمكننا أن نبحث اختلالاتنا الجوهرية من خلال واقع منظومة الاقتصاد الوطني ككل، وما يميز طبقة الأثرياء عندنا وطبقتنا البورجوازية ومستوى رسوخ شروط دولة القانون في المجال الاقتصادي…
في كل هذا، يجب أن نتساءل لماذا هناك إصرار على محاربة السياسة والتبخيس من قيمة العمل السياسي والاحتكام إلى قواعد الديمقراطية في تدبير الشأن العمومي.
يتعلق الأمر، إذن، باختيارات أساسية لابد من تشريحها اليوم وتأمل مساراتها وتداعياتها، وليس بوقائع بعينها أو بمجرد إجراءات وسياسات وأدوات ووسائل.
إن من مصلحة بلادنا أن تبقى مصرة على اختيارها السياسي الديمقراطي والتعددي، باعتبار ذلك مهيكلا وبانيا لباقي المهمات التنموية والتدبيرية والإستراتيجية الوطنية، ومن مصلحتها، تبعا لذلك، وقف انحدار السياسة وتبخيسها، وأن تستعيد الممارسة السياسية والأحزاب والانتخابات ومختلف المؤسسات مصداقيتها وإشعاعها وجديتها ونبلها.
أيضا من الضروري الوعي بأن تطوير المسارات الديمقراطية والتنموية في البلاد وتوطيد الاستقرار المجتمعي يكونان فقط بالثقة، وهذه الأخيرة لا تتحقق عند المواطنات والمواطنين إلا عبر المشاركة، والتي لا تتحقق، هي كذلك، إلا من خلال الأحزاب والنقابات والجمعيات، وبواسطة الصحافة، وداخل المؤسسات الدستورية المنبثقة عن انتخابات حقيقية ونزيهة وذات مصداقية، أي في النهاية الثقة تنتج عن السياسة وعن ممارسة السياسة وعن الانخراط في الأحزاب وتمكين هذه الأخيرة من العمل بمصداقية وسط الناس، والامتناع عن تبخيسها.
ما يجري منذ مدة في بلادنا يجعل تميزنا السياسي والحزبي والديمقراطي معرضا لمخاطر الضعف والهشاشة وغياب المصداقية.
ومن ثم، يعتبر استهداف الأحزاب الجدية وتبخيس عملها ودورها، وتشجيع العبث والانحدار في الحقل الحزبي والسياسي والإعلامي، خطرا على المستقبل ويجب رفضه ومواجهته.