لم يعيشوا حياتهم جزافا، بل كانت لهم رسالة أرادوا إيصالها للناس، إنهم أولياء الله الصالحين الذين خاضوا تجربة روحية وتأملا وجوديا لتحقيق الوعي بمقامات التقوى، وبما أننا في شهر العبادة والذكر، تأخذكم “بيان اليوم” طيلة أيام شهر رمضان المبارك، في صحبة أشهر أعلام التصوف في الإسلام، لنسافر معهم إلى عوالم العشق الإلهي، ونسبر أغوار عالم التصوف وخباياه، ولنتعرف أيضا على التنوع الكبير في أشكال الولاية والطرق إلى الله.
الرحلة السادسة: محي الدين بن عربي “لو علمته لم يكن هو.. ولو جهلك لم تكن أنت”
لم يحمل محي الدين بن عربي لقب “الشيخ الأكبر” مصادفة واتفاقا، وإنما حمله استحقاقا لمرتبة عالية في الطريق الصوفي، ومكانة لا يكاد يبلغها صوفيّ آخر في تاريخ الإسلام، فهو أكبر مؤلّف صوفيّ في تاريخ الإسلام، الأغرز كما ونوعا، وهو صاحبُ أكبر موسوعة صوفية”الفتوحات المكية”.وأخيرا، أكبر الذين صاغوا التصوّف في عصره صياغة تامة، بعد قرون من تطوّر الرؤية واللغة الصوفية.
“رئيس المكاشفين”، “البحر الزاخر”، “بحر الحقائق”، “إمام المحققين”، “سلطان العارفين”، هي ألقاب عديدة حملها المتصوف الكبير الإمام “محي الدين محمد بن علي بن محمد بن عربي الحاتمي الطائي الأندلسي”، الذي ولد بمُرسِية في الأندلس سنة (560 هـ \ 1164 م)، وتوفي في دمشق سنة (638 هـ\ 1240 م)، حيث دُفِن في سفح جبل قاسيون. وتجدر الإشارة إلى أن كثيرا من الناس يغلطون بين “ابن عربي” القطب الصوفي، و”ابن العربي” القاضي الأندلسي الإشبيلي المالكي، صاحب التصانيف والتآليف.
كان والده من أئمة الفقه والحديث ومن أعلام الزهد والتقوى، كما كان جده أحد قضاة الأندلس وعلمائها. شكل الجو الأسري المثقف الذي ترعرع فيه دافعا له لطلب العلم، فدرس القرآن والحديث والفقه، إلى أن مرض في الثانية عشرة من عمرهمرضا شديدا كاد يؤدي بحياته.
“خاله أهله ميتا، كان هو في عالمه الباطني يرى نفسه محاطا بمجموعة من الشخصيات الخطيرة ذات المظهر الجهنمي، لكن ظهر فجأة شخص ذو جمال رباني فسأله: من أنت؟، فأجاب: أنا سورة يس. والواقع أن أباه القلق على حياة ابنه كان يتلو تلك السورة خاصة بمن أتتهم سكرات الموت”، كما جاء في كتاب “الخيال الخلاق في تصوف ابن عربي” للمستشرق هنري كوربان.
عرف “الفقير إلى الله” كما يسمي نفسه، بتنقلاته الكثيرة من المشرق إلى المغرب، ومؤلفاته العديدة التي تقدر بنحو أربعمائة كتاب ورسالة أبرزها: “الفتوحات المكية” الذي يعد موسوعة واسعة في المعرفة الروحية، وكذا كتاب “فصوص الحكم”، في حيننجد من أشهر معاصريه كلا من جلال الدين الرومي، توما الأكويني وابن رشد، هذا الأخير يحدثنا ابن العربي عن لقائه به والحوار الذي دار بينهما. يقول ابن عربي: “دخلت يوما قرطبة على قاضيها ابن رشد، وكان يرغب في لقائي لما سمع وبلغه ما فتح الله سبحانه وتعالة به في خلوتي”.
ويضيف:”فلما دخلت عليه قام من مكانه إلي محبة وإعظاما فعانقني، وقال لي: نعم، فقلت له: نعم، فزاد فرحه لي لفهمي عنه، ثم إني استشعرت بما أفرحه من ذلك فقلت له: لا، فانقبض وتغير لونه وشك فيما عنده، وقال: كيف وجدتم الأمر في الكشف والفيض الإلهي، هل هو ما أعطاه لنا النظر؟ قلت: نعم. لا، وبين نعم ولا تطير الأرواح من موادها، والأعناق من أجسادها، فاصفر لونه وأخذه الأَفْكَلُ وقعد يُحَوْقِلُ وقال: هذه حالة أثبتناها وما رأينا لها أربابا”.
في حين تعرض “الشيخ الأكبر” لانتقادات كثيرة تصل حد قذف البعض له بالكفر والزندقة، خاصة من ابن خلدون، فيقول: “ومن هؤلاء المتصوفة: ابن عربي، وابن سبعين، ابن برّجان، وأتباعهم ممن سلك سبيلهم ودان بنحلتهم ولهم تواليف كثيرة يتداولونها، مشحونة من صريح الكفر، ومستهجن البدع وتأويل الظواهر على أبعد الوجوه وأقبحها (…) فالحكم في هذه الكتب وأمثالها إذهاب أعيانها بالتحريق بالنار والغسل بالماء حتى ينمحي أثر الكتاب”.
وعلى الرغم من كون ابن تيمية واحد من المنتقدين الأشداء للتصوف، إلى أن رأيه في الرجل كان أقل حدة من الآخرين، حيث يشير إلى أن “ابن عربي صاحب “فصوص الحكم” وهي مع كونها كفرا فهو أقربهم إلى الإسلام لما يوجد في كلامه من الكلام الجيد كثيرا، ولأنه لا يثبت على الاتحاد ثبات غيره بل هو كثير الاضطراب فيه، وإنما هو قائم مع خياله الواسع الذي يتخيل فيه الحق تارة والباطل أخرى والله أعلم بما مات عليه”.
ومن وصايا ابن عربي: “عم برحمتك وشفقتك جميع الحيوان والمخلوقين، إذا أنفقت فلا ترد سائلا ولو بكلمة طيبة، وألقه طلق الوجه مسرورا به فإنك إنما تلقى الله، إن الله حقا على كل مؤمن في معاملة كل أحد من خلق الله على الإطلاق من كل صنف، من ملك وجان وإنسان وحيوان ونبات ومعدن وجماد ومؤمن وغير مؤمن”.
ويضيف: “افعل الخير ولا تبال فيمن تفعله تكن أنت أهلا له، ولتأت كل صفة محمودة من حيث ماهي مكارم الأخلاق تتحلى بها، وكن محلا لها لشرفها عند الله وثناء الحق عليها، فاطلب الفضائل لأعيانها واجعل الناس تبعا لا تقف مع ذمهم ولا مدحهم، لا تكن لعانا ولا سبابا ولا سخابا، إياك أن تسأل الناس تكثرا وعندك ما يغنيك في حال سؤالك فإن المسألة خُموشٌ في وجهك يوم القيامة، التؤدة في عمل كل شيء.. إلا في عمل الآخرة”.
> إنجاز: أنس البشارة (صحافي متدرب)