رسائل إلى الروح شرود

إليك أكتب أيتها الروح الشاردة.
حين يشتد برد أيامي، فأهرب إلى دفئ كلماتي.
أكتب فعلا لتلك الروح التي خرجت من الجسد، وتماهت في ملكوت السماوات والأرض.
أما بعد :
لوتعلمين أيتها الروح، أن قلمي الآن جف، وحروفي نضبت، والمآسي حاسرتني من كل حدب وصوب، فأغلقت الدنيا بابها في وجهي،
جفت دموعي، وحل بقلبي التعب،
وهذا الحزن يتبعني ليعلم ما مصيري، وذاك الندى المسكوب فوق غصني المكسور يحدو أثري، فأسألني وأمضي، وقد نفترق لتظل هذه الرسائل الشاردة هي غذائي، في صباحي ومسائي.
فتغفو ذاتي الغفوة الأبدية، لأشعر أني أمشي على الحلم كالجثة الهامدة، لا روح فيها، ولا حياة، ولا ضجيج.
الصمت كبلني كثيرا، وجعل معالم وجهي تخلو من الحياة، حتى ضحكتي باتت باهتة، لأنزف أينما حل البرود على أوصالي.
أخرج رسائلي وأقرأها كل حين أجد فيها ذاك الشق المتواري والموصد وكل الغيوم قد تلاشت عن سمائي ولا شعاع بها ينير طريقي هل فعلا عقارب الوجد تعطلت.
والعمر أصبح عاقرا والجسد بات عقيما وحروفي لم تعد منيرة وذاتي لم تعد تتراقص مع النسيم وماعادت عيوني تشع ضياء لتبث النور وكلي عدم وضياع.
كم أنا أهذي الآن وقد حان موعد ارتشاف فنجاني الأخير.
وأستسمحك عذرا أيتها الروح لم أعد موجودة وذاتي ما عادت في مكانها الأصلي.
تبا، أبدعت في حب السراب وسجلت قولين ..
وأخفقت في حب الحياة ودقت الهزيمة ….
و أنا أكتب الآن يتدلى الفجر من على أسوار الليل فيقترب النوم من جفني ليقبل جبيني ويذهب ونفترق
نفترق فعلا كما يفترق أي حبيبين طويا صفحة الأمس البائس وتخلصا من آثاره الرثة من على جسديهما.
كنت في غالب الأوقات أتشبث بأشياء كثيرة منه وحتى إن رحل يترك لي سببا لأصحو كل يوم فأضحك. وأخرج وأعمل وأدرس وأتعامل مع البشر وأتنفس الهواء الذي يجمعني به كل ليلة من جديد.
حتى وإن لم أعشق تفاصليه.
فقد جمعتني به الحياة والظلام والضياع.
وكلما أفرغ صبري جيوبه وأغمض هدوئي عيونه أهرول من جديد إلى رسائلي أنثر كلماتي وأشعاري وأعيد سرد نثري علي فأعيد شحني من جديد وتعود الابتسامة لوجهي.
أكتب هذه الرسائل لروحي يا روحي و إن لم أرسلها أنا ولم تستلمها هي ولم تقرأها فلقد اعتدت أن أفضي لها بكل ما يجول في خاطري لأخبرها كم أعشقها فعلا وقد باتت جزءا من يومي وكم كانت تريحني وتكنس قلبي من كل ما قد يشوبه من ضياع .

أخبرها مرارا أنها خلقت لي منذ بداية التاريخ، فكنت أنا، وكانت هي، عنوانا واحدا لعابرة سبيل في مذكرات الوقت، وبين أروقة الفصول، لأرسم حلمنا العتيق كرعشة عطر على نحر الأيام و بين خلاياها.
فأقول لك كل شيء، وأي شيء، وأي تفاصيل صغيرة في حياتي تبقيك على علم دائما بكل ما يحدث لي كيف أموت وأنت حية شاردة في الوجود؟
بالأمس القريب كثيرا ما كانت السماء مراهقة خجلى وكان القمر مغازلا جيدا يمد يديه العابثتين حيناً ليداعب الوقت ويجالس الأحلام وحيناً آخر يمضي ومن غير استئذان برفقة لقاءاتنا فينثر أحزاني على سفوح ليله ….
كان الشوق للقياك يا روحي حينها يتكاثر في تفاصيلنا واختلاجات قلبي خائفة فيتزاحم الكلام بين شفاهي سردا قرمزيا تغار من حدته الأيام وما خبأته الخوابي في ركنها القديم.
يتمدد الألم فوق سطوري ثم يتآمر مع أبجديتي على الرحيل فبين السطر والسطر فراغ لا يملأه إلا حضورك يا روحي.
وآخر نقطة في أبجدية الكلمات فترسم لي ضحكتها بألوان من لوعة الانتظار.
تقدمت لي الحياة مرارا باعتذارها.
عن تفسير ذلك العطش المتراكم.
في مرايا الروح لأتلو بياناتي قرب نبضك وأسحب ذيول العتمة من ذاكرتي وأَمضي .
طاب الوقت، و مضت اللحظات، فكيف لي أن أربط زّنار الرقص على خاصرة المسافة الممتدَّة بيننا ولو بكلمتين اثنتين وردة وساق لا غيثا بدون عناقهما.
وأصفق للريح كي تأخذني إليك؟
الوقت يداهمني هناك حيث أنت وهناك كنت أنا وهنا وصلنا وسنبقى شذا شهيا..
إلى ما شاء النبض…
إلى ما شاء القدر…
أما وقد دعوتني أيتها الروح للرقص وتناولت يداك نبضي.
ورسمت على محيا غيابك المحموم،
سوارا ضيقا، فلا تتسللي حول خصر لحظاتي .
ما عساي فاعلة أنا يا روحي؟
فأنا ‏أستيقظ كل يوم مصلوبة على جدع الريح.
‏أُسائلُ الطرقات عني وعنك، فتلعنني، وتعشقني، وتبحث عني في تجاعيدك، في ‏عباراتك، كشتاء هدّهُ الهذيان ‏خلف الصمت، والوجه المقنع بالوقار.
وأنا برفقتك راقصة بارعة مفتونة بالضياع، كأرجوحة ثملة بين يدي الحياة، تسكب قصيدة من سكر على أحلامها لتزداد فتنة وشوقا،
عسى الغياب يعلمها، كيف يكون الهوى و أناشيد الهمس، ويمطرها حروفا من جنون الحواس الخمس أكتب الآن خطابي وأشعر كأنك قرأت كل الكلمات وكأنك سمعت نبرتها أو كأنك أحسست بها و ارتحت.
لأسألك أتريديني أن أنساك؟
أو أخرجك من قوقعتي؟!
لا يمكن أن أفعل على الأقل ليس الآن.
ربما بعد زمن، حين يصبح وجداني قادرا على تحمل فراقك.
أحتاجك، لتتصلب دواخلي… فأستطيع المضي دون حمايتك؟!
أن أقف دون أن استند إليك؟!
أحتاجك، ربما قرونا أرتدي فيها أثرَ السحاب، و‏أسائل الطرقات عن معناي، فأُبصرني فيما توارى مني على مساءات الحالمين.
فسلام عليك وعلى ظلالك التي تقتات عليها الأوقات العجاف في لغتي، لتزهر رسائلي ورداً في صمت غيابك.
وسلام على الذكريات التي تسطع كنجمة صبح، لتتأنق بين أزرار القصائد، فتتفتح كل فجر رغم تهشم المرايا، و حزن الوقت.

بقلم: هند بومديان

Related posts

Top