أنا ذاك المزيج المرمري من تكسرات الذات الذي يتأرجح بين احتجاجي والسلام باحتياج يخُض دمي،
لأسْفك حظي على عتباتِ الغياب،
حنان فضفاض يتجول أطراف الحياة، يداعب أجواء الفرح يحدق بصمت بذاك الجسد الميت، يستدفئ بمطارق الذاكرة فأُهدهد حضني الوسنان بين طيّات الخواء، وأُرَبّت على قلبٍ كاد أن يجن بين احتمالٍ للحياة وموت مؤكد في رحيل ذاتي الطويل.
يا أيّها الغائِرون، في سحيقِ مأساتي، أينكم من نزاعاتِ الضّفاف؟
ماذا لو استطعت تحطيم جدران تراكماتي، والخروج إلى العالم كما وُلدت ببهاء، ونقاء روحي.
ماذا لو مات الخوف بداخلي؟
ذاك الذي يكتم على أنفاسي، واندثرت الأسوار التي تخفي خلفي ضعفها
ماذا لو اختفت المسافة التي تفصل بيني وبين جوهر روحي؟
وزال كل غبار السنين الذي يطمر وهج بريقي ليطرق نوافذ أفكاري ويهطل بقطرات مطر من أنين وحزن أتى فيه يلف غيمة العينين
ألم يربت على السكون بشهقات؟
ماذا لو تخلصت من التعلق بالأشياء الزائفة كمثل أحلامي، تلك التي تبعد عن صدق أعماقي وبحثت في ظُلماتي عن نور الروح الذي هو أصل وجودي
ماذا لو تحررت من كل عقد الماضي؟
وأصبحت من جديد كالأطفال في براءتي وتوقف بحثُي عن السعادة في الدنيا بينما السعادة الحقيقة موجودة في عمقي
ليضيق في لفائف عنق النجوم كشعاع مكسور، في عقر الظلام ينتصب، فوق حلم مصلوب، على كوابيس موقدة، أدمت الروح بحرقة أرضٍ تلبس أثواب وعود مازالت تستهويني، فوق بردة الأقدار وتخشع مستسلمة لذاكرة الوداع لا يشغلني حجم الباب عند الخروج ولا أفكر في الدخول
أترنح على عتبات الريح وتحت الشمس أرش الصبر على جمر لهفة رمادية الفواصل وجسدي مجرد كومة بياض ناصعة تهذي من فيض الضياع، فتراودني، أبجدية متعجرفة تتحسس الدفء، لتتكوم في ضلوعي المقفلة، وإرث مهترئ في ثياب محافظة لم يبق شاغرا، في وشوشات طفلة، بعيد عن أنامل دمي، أجادل قدري أذكره بالمطر وكيف أستعيد هيئتي الأولى وأدرب نفسي على الخلود وأجادل الموت مطمئنة للوجع الأخضر،
ماذا؟ ثم ماذا لو؟ ثم لا شيء
فأشدهم أثر في العمق المكين للذاكرة تلك اللحظات التي تضرب هوة الروح فتنفض غبار الوهم ثم تبتسم وتنطلق لتمسح صدأ الضوء
تنفخ بأوتار القلب لحنا لتفعل بخطى الوجد عثرات فتنبثق من رماد المسافة أوهام لتغلق معابر مفتوحة على الأحلام
فعلا حلمت بموت حتمي وبحقيقة مؤجلة ولكنني الأسيرة في شرك الضياع وللحظة نسيت كفي على أبواب الانتظار وأنا أمضغ سكون المساء برعونة
وكل القصص هرمت في ثغر اليقين ولا شيء سوى حفيف همسي يجنح صوب أشرعة النسيان وذاكرتي مجردة من هفوات تاريخ أثقلته لواعج سنين غارقة بحنين دمع عشعش في كهوف تقاطر منها عجيج النواح
لا أدري
لما أيقظت وسادتي، وكومة الخصب كصداع محموم، ينتفض على خابية مثقلة بروائح
تعود إلى هناك، تهرول طعم الحزن المثلج تحملني إليك، بشهوة هاربة من عتمة خرساء شاكست رزمة الفراغ، في زوايا الرماد البارد
فهناك من عبير عطري شذرات تسافر مني إلي تلتف حولك كالغمام فعقد الأبواب حولي والستائر، حاول الخروج من عقدات نبضي لترصد الضحكات والدمعات
فانطلق صداها في حدائق منفية، ليملأ صفيرها عواصمي المتورمة، فتملأني يدك خلسة، خلف دانتيل نجمة شفافة تخيفها أبوابا موصدة، كعصفور يرتعش، ولم يطلق سراحه بعد المطر بل قايض قمره برقعة الشطرنج
فيا ضوء شمسي ويا شرنقة الصمت بداخلي أما آن لك أن تهمسين بلا صوت وتغازلين حرير العمر الرث كجدلية كانت تداعب ظهر أيامي المحدبة بالغياب
وحدث ذات لهفة أسدلتُٔ ستائر الروح على نوافذ الغياب، علني أجفف قهر وجع، أحال النبض طقوساً من نار، ليتناثر قلقي على رصيف شكوى، تقتات من بقايا حكايات شوك،
فعلا، لم تمت مذ ألف ماضٍ، فأنا التي ترسم ظلالاً باهتة على أطلال أرضٍ تجرعت العلقم والمرار، وأنا انتظر تفاصيل غمامة حلم مشبعة ملامحه برائحة حنينٍ لأمسيات وطن، أودعته حقائب آمالي الحائرة، حين يأكلني الرماد وتبعثرني أسواط تاهت وسط خوابي جراح قديمة
وكل ليلة يا أنا
تقرعين أجراس العيد وتشعلين شموع الميلاد بصمت
فأعود أنا إلي، لأطفئها خلسة وقد أخفيت تحت أصابعي حرائق المساء، حين كان حيا ولم يوزع الظلال المرتجفة،
تارة أتمدد على أرجوحة نمطية، أتخيل السفر واخترع الفكرة لأطارد الفرح بين العشية والليل
أستمع لثرثرة بحيرات الحب الحريرية من زمن لاواديسا
كفراشة مزنرة بالضوء، تحمل بصمات من حبيبات الروح، فوق شجرة الأعياد لتجهض حديث الصمت
فأكتشف… لوهلة
أن للحياة بقية، لا ترقد بولادة ضحكة على طرف قبلة بنفسجية،
بأول لحظة بين ضياء أعمى، وصوت فيروزي محنط يخفض جناح الليلك فوق زنبقي المنسي، بزفير عاقر
يسألني،
عن محبرة أفروديت العتيقة وبرودة أدونيس العارية، والموت المفاجئ في غبطة المستحيل
حين يرخي هداياه المغلفة، ويرحل بهدوء وكان النجوم التهمته
أنساني، وأنسى أني، وأنسى المصابيح المطفأة، وجواري العطر ونبض الثلج والحرائق
حتى سخرت حواف النوستالجيا من معطف الوداع، ومن ملاءة معصوبة فوق موعد بآخر النفق ينتظر على مدارج المسافات معلنًا التبعية لسطوة العمر واقتباسات حلم باتت تتلاعب بالذكريات بين أحضان الحياة
بقلم: هند بومديان