رواد في تاريخ الإسلام.. آثروا الثورة على الثروة -الحلقة 12 (2/2)-

“…حفل التاريخ الإسلامي بأسمائهم بعد أن ارتقوا قمم العلوم وتوجهوا بها لخدمة الإسلام والمسلمين، آثروا حياة الثورة والنضال على حياة الترف والبذخ والرخاء…، حملوا فكرهم وعلمهم سلاحاً للدفاع عن القضايا الوطنية للأمة، فكتبوا وأبدعوا فكراً وديناً وشعراً وابتعدوا عن خانة “الغاوُون” فلا هم في كل واد يهيمون ولا يقولون ما لا يفعلون، عاشوا أحراراً مرفوعي الرأس دون أن تسمح أقلامهم أن تكتب نفاقا وتزلفا لحاكم أو سلطان، ودون أن يرفع سيفهم إلا نصرة للحق والمُستضعفين.. أحسنوا في تفسير الحرّية الغربية وقابلوها استئناساً بالليبرالية الشائعة في الغرب والدائرة على كل لسان حينما رأوا فيها العدل والإنصاف…، أوضحوا أن السير في طريق التنمية والتطور واكتساب المعرفة يقتضي بالضرورة وجود دعامات الحرّية والعدل والمساواة التي تجد مصادرها في الشريعة الإسلامية حيث المنهج والدستور الكامل والشامل، حيث مصطفى كامل وأنور الجندي والشيخ علي الغاياتي والخطابي والمراغي والنديم وياسين وعلال الفاسي والبنا وإبن تاشفين وأبو الحسن الندوي وغيرهم من رجالات الفكر العربي والإسلامي، إنهم عمالقة الفكر والتنوير ورواد الأصالة الإسلامية،… إنهم “رواد وعمالقة مسلمون” آثروا الثورة عن الثروة…

عبد الله النديم.. ضمير الشعب والرائد الحقيقي للثورة العرابية

الصعلوك الذي حمل نُكتة الشعب وهمّ المَسحوقين والضُعفاء وشكّل العاصفة المُمتدة للثورة

خطيب الثورة.. التنكيت والتبكيت

لم يكاد يَجُدّ الجَدّ وتُصبح الثورة حقيقة واقعة حتى يغلق مجلته (التنكيت والتبكيت) التي أسسها في الاسكندرية بعد تركه مقهى (متانيا) ويعود إلى القاهرة ويصدر فيها مجلة أخرى يختار لها عرابي اسم (الطائف) ويندمج إبن البلد بسرعة شديدة في بيئة الثورة وتتوثق صلته بزعمائها فلا يلبث أن يصبح لسانها الناطق وأن يحمل لقبه التاريخي خطيب الثورة، وبات دور النديم لا يقتصر (خلال الثورة) على الدعوة الصحفية فقد استحق لقب خطيب الثورة عن جدارة واستحقاق، كان خطيبا مُفوّها أوتي القدرة على إلهاب الجماهير وفي وصف ذلك يقول أحمد أمين في كتابه (زعماء الاصلاح): “…..طاف في كل مجتمع يخطب وأعطى من ذلاقة اللسان ما يستدعي العجب، فما هو إلا إن يحرك لسانه حتى يتدفق وتنهال عليه المعاني والألفاظ انهيالا، نشر فنّ الخطابة وعلّم الكثير من الناشئة أن يخطبوا في المَحافل وأعطى لهم المثل بقدرته وكفاءته، فكان عبد الله النديم وصحبه وتلاميذه يغنون للناس بآمالهم فأقيمت الحفلة تلو الأخرى يُدعى إليها النديم وفرقته ليخطبوا والنديم هو قطب الرحى، فلما عُطّل الدستور وتطوّرت الأمور وكانت الثورة العرابية تحوّلت خطب عبد الله النديم الى موضوع الثورة، كان يخطب في كل مجتمع فتراه في الأزهر بين طلبته والجيش وجنوده في ثكناته، بين العامة في حفلات الأفراح، فما يكون مجتمع لغرض من الأغراض إلا ويطلع عليهم عبد الله النديم وجماعة ناشئته ليعتلوا المكان العالي ويخطبون في موضوعات الثورة، كان عبد الله النديم لسان الأمة في عهده بخطبه وقلمه، بصحفه، ينتقل في الأقاليم لا يَكلّ ولا يَملّ ينشر آراءه ومشاعره في أكبر عدد مُمكن من الأمة وبذلك كله ساعد على نمو رأي عام مصري يؤمن بالحكم الثوري ويتطلع إلى الإصلاح في الأمور الاقتصادية والسياسية….”.

اللايحة.. تكفير الخديوي

“….لم يكن النديم لسان الأمة فقط بقدر ما كان قيادة شعبية بمعنى الكلمة بعد أن التفت حوله الجماهير التي أخذت تجوب الشوارع في اللحظات الحرجة لمصر حتى تكونت له السيطرة على الشارع (يضيف أحمد أمين)، لقد جاء أسطول مُشترك من الانجليز والفرنسيين إلى الاسكندرية وقدّم وزيرا انجلترا وفرنسا إلى الخديوي مُذكرة مشتركة يطلبان فيها إبعاد عرابي عن مصر ونفي زميليه علي فهمي وعبد العال حلمي خارج البلاد وإسقاط وزارة البارودي، فها هي اوروبا تتدخل، والثورة في حاجة إلى تأييد شعبي، فماذا يفعل النديم؟؟ لنتمعن في هذه الصورة النضالية للشعب: يُسرع النديم إلى الأزهر فيُشعله حماسة في مناصرة الثورة حتى يفتى بعض المشايخ بتكفير الخديوي ثم يطير إلى الإسكندرية يخطب في الشوارع وينظم المظاهرات الشعبية التي تهتف: إبعدوا السفن الأجنبية، يَجوب الحواري والأزقة التي نشأ فيها والتي باتت تحت رحمة مدافع الأساطيل الانجليزية، يُعلّم النساء والرجال والأطفال نشيداً يردّدونه واحد يهتف اللايحة اللايحة (أي المذكرة الانجليزية الفرنسية) فيردون عليه مرفوضة مرفوضة، ويشهد الأجانب في الاسكندرية مَنظرا عَجيباً حيث النساء في النوافذ يهتفن اللايحة اللايحة والجماهير في الشوارع تردّد مرفوضة مرفوضة…”.

في أحضان الشعب

بعد شهرين من هذه الحملة تنطلق مدافع الأسطول الانجليزي تدك كل عزيز عليه تمزق جماهيره الهاتفة وتحطم البيوت التي طاف بها وتشعل النيران في الحواري التي لعب في ترابها، فباحتلال مصر قبض على كل زعماء الثورة فيما عدا عبد الله النديم الذي اختفى تماما عن الأنظار لأكثر من تسع سنوات متصلة (سبتمبر 1882/نوفمبر 1891) وكان لإفلاته من قبضة البوليس الذاهب لإلقاء القبض عليه مغامرات مُثيرة تدل على سعة حيلته من جهة ومعرفته الدقيقة لقرى الوطن وشوارع المدن ومَعدن الشعب، وتدل على طبيعة المَصريين في عصره وتعاملهم معه عن معرفة لدوره في الثورة وتقديرهم لهذا الدور المجيد، فقد أعلنت الحكومة عن جائزة قدرها ألف جنيه لمن يرشدها عن مكان النديم (ثلاثين ألف جنيه بنقود زماننا الراهن)، ومع ذلك لم يرشد عليه أحد طوال تسع سنوات وقد كانت العشرات من فقراء الفلاحين يعرفون طريقه، لقد ذاب في بحر الشعب ونام بين جفونه ولم يرهب الشعب الطيب تهديد الحكومة بإعدام كل من يخفيه أو يتقاعس في الإبلاغ عنه.

يروي عبد الله الجميعي (حكاية عبد الله النديم): “…كان النديم شُعلة من الحماس المُتقد الذي سرعان ما يلهب الجماهير وينتقل اليهم في الأرياف والبوادي والحقول والبساتين، يُنظم المظاهرات ويحشد الجماهير خلف الثورة، دائم الحركة لا تكاد تراه يسكن أبدا،كان الزعيم الحقيقي والفعلي للثورة العرابية التي نظم خلاياها وضم إليها كل من عرابي وعبد العال حلمي وعلي فهمي وغيرهم، يجمع التوقيعات من أجل توكيل عرابي للحديث بإسم الأمة قبل التاسع من سبتمبر 1881 جاعلاً من الشعب والجيش في صعيد واحد من الثورة، يُفسد كل المحاولات الهادفة لعزل الشعب عن الجيش، فهو مع الجيش في ثكناتهم ومع الفلاحين في حقولهم ومع الطلبة في مقاعدهم الدراسية، يُحاول على الدوام تسليح الجماهير بالوعي الاسلامي والثورة للدفاع عن المُستضعفين ومُهاجمة أعداء الثورة في إيحاء تام إلى النفوذ الأجنبي والاستبداد الخديوي حتى كانت آخر قرية دخلها مُتخفيا هي (الجميزة) التي لم يلبث فيها سوى أياما قليلة حتى حاصرها البوليس وألقى القبض عليه بعد وشاية جاسوس كان يعمل مُخبراً سرّيا وأرسل إلى نيابة طنطا بعد تسع سنوات من الفرار المُتصل وأحسن وكيل النيابة (قاسم أمين) مُعاملته حتى تجيء التعليمات الخاصة به من القاهرة وقد أخذ يقول له شعراً حينها جاء فيه:

ولقد نذرت إذا لقيتك سالما لأقبلنّ مواطئ الأقدام

ولأثنينّ على سجاياك التي حثّت على التحرير والإقدام

وأسقط (قاسم أمين) عن الجاسوس المكافأة لانقضاء المدة فلم ينل غير عذاب الضمير واحتقار الشعب، وفي ذات ليل ينفى خارج الوطن فيختار أقرب البلاد إلى مصر حيث يافا الفلسطينية.. ولما هبط من الباخرة هناك ترقرقت الدموع في عينيه حين وجد جمعا من الناس في انتظاره يستقبلونه فرحين بقدومه فمازال الناس يعرفون جهاده وأقام هناك زمنا ثم مات الخديوي توفيق وخلفه عباس وعفا عنه فعاد إلى مصر 1892…”.

اللحن الأخير

ويضيف لنا عبد الله الجميعي واصفا لنا اللحظات الأخيرة لعبد الله النديم: “….لأنه ثائر لا يفقد الأمل، فقد عاد المُحارب القديم إلى ميدانه فأصدر مجلة أخرى باسم (الأستاذ) تواصل مسيرة الدعوة والثورة والتنوير، وفي ذات ليلة يطرق باب هذا الثائر القديم شاب نحيل رقيق كأنه شاعر يقول إنه طالب في كلية الحقوق وإن اسمه مصطفى كامل جاء يسأل النديم عن القصة الحقيقية للثورة، ويجد النديم بغيته، فهذا الشاب هو أحد رفاق الجيل الجيّد الذي يستطيع أن يحمل الرسالة لتلميذ آخر يستطيع أن يبث فيه تعاليمه وينفض عليه كل مراراته، وبما أن الاستعمار لم يتحمل وهج النديم، فأخذ يتضيق عليه عبر سلطات الحكم وخونة الثوار، فتغلق مجلته الأستاذ وينفى خارج البلاد ويستدعيه السلطان عبد الحميد إلى اسطانبول التي يضيق فيها النديم بساحة لا حرب بها ويتابع حركته جواسيس السلطان في كل مكان ويستسلم الجسد المنتفض لجرثومة السلّ فيغادر دنيانا في العاشر من اكتوبر 1896 وهو في الرابعة والخمسين من عمره، ويسير خلف نعشه الذاهب إلى القبر شيخ جليل أفنى الكفاح حياته وكان النديم تلميذا له في أيام بعيدة عندما كان جالسا يسمع دروس الثورة في مقهى (متانيا) يشرب الشيشية ويوزع السعوط بيمناه والثورة بيسراه، وبعد أن ترك لنا إرثا إسلاميا هاما من أمثال “الساق على الساق في مكايدة المشاق”، “كان ويكون”، “النحلة في الرحلة”، “الاحتفاء في الاختفاء”، “البديع في مدح الشفيع…”. 

> إعداد: معادي أسعد صوالحة
كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في المغرب

Related posts

Top