“…حفل التاريخ الإسلامي بأسمائهم بعد أن ارتقوا قمم العلوم وتوجهوا بها لخدمة الإسلام والمسلمين، آثروا حياة الثورة والنضال على حياة الترف والبذخ والرخاء…، حملوا فكرهم وعلمهم سلاحاً للدفاع عن القضايا الوطنية للأمة، فكتبوا وأبدعوا فكراً وديناً وشعراً وابتعدوا عن خانة “الغاوُون” فلا هم في كل واد يهيمون ولا يقولون ما لا يفعلون، عاشوا أحراراً مرفوعي الرأس دون أن تسمح أقلامهم أن تكتب نفاقا وتزلفا لحاكم أو سلطان، ودون أن يرفع سيفهم إلا نصرة للحق والمُستضعفين.. أحسنوا في تفسير الحرّية الغربية وقابلوها استئناساً بالليبرالية الشائعة في الغرب والدائرة على كل لسان حينما رأوا فيها العدل والإنصاف…، أوضحوا أن السير في طريق التنمية والتطور واكتساب المعرفة يقتضي بالضرورة وجود دعامات الحرّية والعدل والمساواة التي تجد مصادرها في الشريعة الإسلامية حيث المنهج والدستور الكامل والشامل، حيث مصطفى كامل وأنور الجندي والشيخ علي الغاياتي والخطابي والمراغي والنديم وياسين وعلال الفاسي والبنا وإبن تاشفين وأبو الحسن الندوي وغيرهم من رجالات الفكر العربي والإسلامي، إنهم عمالقة الفكر والتنوير ورواد الأصالة الإسلامية،… إنهم “رواد وعمالقة مسلمون” آثروا الثورة عن الثروة…
عز الدين القسام… الطريق إلى فلسطين المسلمة
مُفجر الثورة ورائد حركة الجهاد في فلسطين المحتلةُ
بعد عشرات وعشرات السنين من استشهاد الشيخ المجاهد عز الدين القسام على أرض فلسطين المُباركة نجد أنفسنا نكتشف أن الطرح الصحيح للقضية هو ما طرحه ومارسه عز الدين القسام حيث الإسلام والكفاح المسلح، بل نجد أن تجربة عز الدين القسام (وهو عالم الدين السوري المُولد المكافح ضد الاحتلال الفرنسي في سوريا والراغب للجهاد ضد احتلال ايطاليا لليبيا والرابط دائما بين الكيان الصهيوني والاحتلال الإنجليزي) تكشف عن فهم كل العوامل الأصيلة والمعاني الصحيحة في القضية الفلسطينية، ترى كيف امتلك عز الدين القسام هذه الرؤية الصحيحة وأين تعلّمها، وكيف صاغها فكرًا وممارسة بعد أن شكلت نواة العبقرية لرجل الدين المجاهد عز الدين القسام.
الدفاع عن الإسلام
فمن قرية الأدهمية ومدينتها جبلة إحدى عرائس البحر الابيض المتوسط وكبرى المدن التابعة لحاضرة اللاذقية السورية ولد عز الدين القسام (عز الدين عبد القادر مصطفى يوسف محمد القسام) عام 1982 مُشرق الوجه بَهيّ الطلعة رائع المُجتلى، فحنكّه بتمرة أقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا له بصالح الدعاء حين اطلق عليه اسم عز الدين القسام سائلا الله بأن يجعله من خيرة عبادة المسلمين وأن يعز به الدعوة والدين، فشب على حفظ القرآن الكريم بزاوية الإمام الغزالي بالقرية الصغيرة حتى اضحى واسع الأفق، عالي الهمة، بعيد المطامح، مُمسكا الدين بيمينه، عاضاً عليه بالنواجذ، آخذا الدنيا بشماله، مُسخراً كل ما أوتي من علم ومعرفة لخدمة الدين والإسلام وعزة المسلمين كما أراد والده حتى بلغ من علو همته وبعيد مطامحه أن ولى وجهه شطر الديار المصرية بدايات العام 1896 ملتحقا بالأزهر الشريف منارة الدنيا وموئل العلم دارساً لمختلف العلوم الشرعية لفترة امتدت عشرة سنوات حتى اكتمل جوهر شخصيته وكمال رجولته وحسن تصرفه، ومع بدايات العام 1906 عاد إلى مسقط رأسه سوريا حاملا لشهادة الأهلية للتدريس والخطابة بمسجد المنصوري الكبير، يهتف من منبره للجهاد في ليبيا مع بدايات الحرب التي قادتها إيطاليا عام 1911 إدراكاً منه بأن الدفاع عن أي بلد إسلامي ليس سوى واجب شرعي على كل مُسلم وبالأخص علماء الدين، دعوة كان لها صدى كبير بين أوساط الشباب الذين التفوا سريعا لنصرة ليبيا بعد أن أخذ بإعدادهم للسفر عبر الاسكندرية في وقت رفضت فيه السلطات السورية القيام بذلك.
ثورة جبل صهيون
لم يثنى قرار السلطات السورية منع القسام ورجاله في المشاركة مع المجاهدين الليبين من عزيمته التي انطلقت باتجاه تجنيد الشباب السوري لمساعدة عمر البيطار في ثورة جبل صهيون السورية ضد الاحتلال الفرنسي (1919/1920) التي أبلى فيها القسام بلاءً حسناً إلى درجة دفعت الفرنسيين لمهادنته وشرائه بعد أن عرضوا عليه توليه القضاء الذي رفضه جملة وتفصيلا قبل أن يعود هذا القضاء ليصدر عليه حكماً غيابياً بالإعدام بعد نجاحه بالفرار إلى فلسطين المحتلة عام 1921 (بعد أن أيقن بأنه مُهددا بالتطويق وسيلقي بنفسه إلى التهلكة) واتخذ من مسجد الاستقلال بالحي القديم لحيفا مقرا له وسط الفلاحين والفقراء الذين نزحوا إليه وتجمعوا حوله يتلقون كلماته التي تثير فيهم روح الجهاد والمثابرة والقتال للعدو الصهيوني الذي أخذ يظهر الملامح الأولى لغزوته على فلسطين.
فلسطين … قضية كل مسلم
يروي لنا حسام الدين بلبل (عز الدين القسام وصفحات من تاريخ بلاد الشام) حياة القسام الجهادية “…..كان القسام قد أخذ يُدرك جيدا بأن الغزوة الصهيونية هي أخطر وأشد حلقات التآمر الصليبي على العالم الاسلامي، وأن الجهاد في فلسطين قد بات الأولوية الأولى من أولويات القضايا الإسلامية (رغم أهميتها جميعا) مُشيدا بالبادرة الأولى في وعي الأمة التي اعتبرت قضية فلسطين هي القضية المركزية للأمة الإسلامية، وانطلق من مسجده ينشر الوعي الجهادي مُؤسّساً لجمعية الشبّان المُسلمين كأداة أولى في المواجهة على مستوى الوعي والتعليم والجهاد قبل أن تتحوّل سريعاً إلى تنظيم مُسلح اختار عناصره من الفلاحين والباعة والصناع، وبدأ يَشنُّ عملياته الفدائية ضد المستوطنات الصهيونية ومَصالح الاحتلال البريطاني حتى لاقى الشهادة في إحدى عملياته مع اثنين من المجاهدين هما الشيخ يوسف الزيباوي وعطية المصري يوم العشرين من نوفمبر 1935..”.
ويضيف الكاتب بالقول “…..كان القسّام يُؤمن بأن الاكتفاء بالإضرابات والتظاهرات الاحتجاجية لا يُخلّف إلا الضوضاء والشهداء والمُعتقلين؛ فيما العربة الصهيونية تمضي بهدوء وصمت تحت حراسة حراب المُحتل ورعايته، فانطلق يعمل على إعداد الجماهير نفسيًا للثورة، وساعده في ذلك عدد من المجاهدين العرب من أمثال الشيخ كامل القصاب (سوري) وهاني أبو مصلح (لبناني)، فكانت أنشطته العلنية في الوعظ والتدريس ستارًا لعمله الأساسي في بناء الثورة، واختيار الصالحين لها من بين تلاميذه ومُستمعيه، وقد أعانه عمله كمأذون شرعي على ارتياد القرى المجاورة والتعرّف إلى أهلها وعقد صلات معهم، فمرت السنوات وتكاثر أتباعه المؤمنون بدعوته، وقد كان يختار هؤلاء بعد اختبار يمتد لسنوات ويشترط للانضمام إليه أن يشتري المجاهد سلاحه الأول من ماله الخاص ليكون بذل المال تدريبًا عمليًا على الاستعداد لبذل الروح في سبيل الله…”.
الجماهير الكادحة
تعلم الجميع (بعد وقت طويل ضائع) أن عز الدين القسام قد وصل إلى لبّ المنهج الصحيح للمواجهة، فالذين تحركوا تحت شعارات مُختلفة من وطنية وقومية وماركسية وغيرها فشلوا جميعًا في تحريك الجماهير ووصلوا بالقضية إلى أسوأ حالاتها، بل سقطوا جميعاً (إلا من رحم ربك) في مستنقع التفاوض الآسن، فها هو القسام قد وضع يده على الطريق الصحيح لتحريك الجماهير ألا وهو الايدلوجية الاسلامية باعتبارها الوحيدة والقادرة على المواجهة والحشد ضد العدو الصهيوني، مُتجها في خطاباته إلى الجماهير الكادحة التي اقتنع بقدرتها على الجهاد بعد أن أخذ يقول في احدى خطبه “..إنني اؤمن يقيناً بأن جرأة السارق والقاتل والمُنحرف قابلة للتحوْل إلى شجاعة حقيقية وثورة صالحة إذا ما ارتد هذا المُنحرف عن غيّه وآمن بالله وبالجهاد في سبيله..”، دون إغفال الجوانب الأخرى لحركته التي مارس من خلالها النضال السياسي كجناح آخر من أجنحة الحركة، فمارس التعليم ومحو الأمية حتى نجح القسام في تشكيل خمس لجان تنظيمية مع بدايات العام 1935 هي الدعوة والدعاية، التدريب العسكري، التموين، الاستخبارات والعلاقات الخارجية دون أن يفصل في عمله بين الدين والسياسة التي تعلم بذورها في ساحات الأزهر الشريف.
تفاؤل المستقبل.. يأس المرحلة
كان عز الدين القسام يُدرك حقيقة تفاؤل المُستقبل رغم يأس المرحلة التي تمر بها الأمة الاسلامية التي اخذت حرماتها تُنتهك من قبل الصهيونية والصليبية، كان يَعرف أن الاستشهاد هو مُفجر الوعي وأن الحسابات لا ترتبط باللحظة الآنية بل تنظر بعين المستقبل، وبالتالي كان انتصاره عظيماً لحظة استشهاده مع رفاقه يوم الخامس عشر من نوفمبر 1935 بعد أن كشفت القوات البريطانية أمره، فتحصّن الشيخ عز الدين هو وخمسة عشر فرداً من أتباعه بقرية الشيخ زايد، فلحقت به القوات البريطانية في 19/11/1935 فعمدت إلى تطويقهم وقطع الاتصال بينهم وبين القرى المجاورة مُطالبة إيّاهم بالاستسلام الذي قوبل بالرفض من طرف القسام ورفاقه الذين سارعوا إلى الاشتباك المُباشر مع القوات الغازية في معركة غير متكافئة بين الطرفين حتى اخترقت صدره العامر بالايمان رصاصة محشوة بالبغي والعدوان، فخرّ صريعاً مُضرجاً بدمائه ذوداً عن أولى القبلتين ودفاعاً عن ثالث الحرمين، مُوفياً إلى ربّه راضياً مرضياً، مُخلفا وراءه المجاهدين الذين لا يزالوا ثابتين على أرض فلسطين حتى يومنا هذا، وما أن جاء يوم العشرين من نوفمبر سنة 1935 حتى أضحى القسام علماً من أعلام الجهاد يتردّد اسمه في بلاد فلسطين كلها.
> إعداد: معادي أسعد صوالحة
كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في المغرب