رواد في تاريخ الإسلام.. آثروا الثورة على الثروة -الحلقة 19-

“…حفل التاريخ الإسلامي بأسمائهم بعد أن ارتقوا قمم العلوم وتوجهوا بها لخدمة الإسلام والمسلمين، آثروا حياة الثورة والنضال على حياة الترف والبذخ والرخاء…، حملوا فكرهم وعلمهم سلاحاً للدفاع عن القضايا الوطنية للأمة، فكتبوا وأبدعوا فكراً وديناً وشعراً وابتعدوا عن خانة “الغاوُون” فلا هم في كل واد يهيمون ولا يقولون ما لا يفعلون، عاشوا أحراراً مرفوعي الرأس دون أن تسمح أقلامهم أن تكتب نفاقا وتزلفا لحاكم أو سلطان، ودون أن يرفع سيفهم إلا نصرة للحق والمُستضعفين.. أحسنوا في تفسير الحرّية الغربية وقابلوها استئناساً بالليبرالية الشائعة في الغرب والدائرة على كل لسان حينما رأوا فيها العدل والإنصاف…، أوضحوا أن السير في طريق التنمية والتطور واكتساب المعرفة يقتضي بالضرورة وجود دعامات الحرّية والعدل والمساواة التي تجد مصادرها في الشريعة الإسلامية حيث المنهج والدستور الكامل والشامل، حيث مصطفى كامل وأنور الجندي والشيخ علي الغاياتي والخطابي والمراغي والنديم وياسين وعلال الفاسي والبنا وإبن تاشفين وأبو الحسن الندوي وغيرهم من رجالات الفكر العربي والإسلامي، إنهم عمالقة الفكر والتنوير ورواد الأصالة الإسلامية،… إنهم “رواد وعمالقة مسلمون” آثروا الثورة عن الثروة…

عبد الرحمن الكواكبي.. شهيد الحرية 2/2

عدو الاستبداد الذي تحدى طغيان السلطان العثماني عبد الحميد

حرب على الاستبداد

لم تكن معركة الكواكبي ضد الاستبداد العثماني كما شهدتها شوارع حلب وميادينها وجماهيرها سوى خطوة في الرحلة المجيدة التي خاضها هذا المجاهد الكبير قبل أن يخوض خطوته الكبرى من خلال أعماله الفكرية التي كان على رأسها طبائع الاستبداد الذي أخذ يدعو فيه إلى مصارعة القهر والحرمان برؤية إسلامية ناصعة بالغة النقاء حيث القرآن الكريم المشحون بالعدل والمساواة والحرّية، مُعلنا الهجوم الساحق على الضلال والغيب والخرافات التي أخذت تدعو إليها بعض فئات المسلمين، داعياً إلى ضرورة تربية المُسلم لا حسب كثرتهم ولا حسب عواطفهم بل من خلال التسامح مع الأديان الأخرى، وفي هذا يقول بنفسه: “… ما أحْوَج الشرقيين أجمعين من بوذيين ومُسلمين ومسيحيين ويهود وغيرهم إلى حكماء يَجيدون النظر في الدين، فيعيدون النواقص المُعطلة ويُهذبونه من الزوائد الباطلة، وهذا يطرأ عادة على كل دين حين يتقادم عهده، ويحتاج حينها إلى مُجددين يُرجعون به إلى أصله المُبيّن البَريء….”.

الرحلة إلى مصر

رأى الكواكبي بعد ذلك أن بقاءه في حلب (بعد تلك المعارك) أصبح أمراً مَحفوفاً بالمخاطر، كما أن التضييق عليه أصبح مَانعاً له من مُمارسة نشاطاته الهادفة إلى كشف طبائع الاستبداد وفضحه أمام العامة بقصد تنوير وعيهم وحشد جهودهم لمواجهة المُحتل العثماني الظلوم، فقرّر السفر إلى مصر والإقامة فيها، وكانت آنذاك قبلة الثائرين في المشرق، كما كان لتوتر العلاقة بين القاهرة وإسطنبول أكبر الأثر في تفضيله مصر على غيرها، وهنا يحكي لنا الكاتب سهيل عروسي في كتابه (عبد الرحمن الكواكبي: الجمر والرماد) لحظات وصوله مصر بالقول: “….فور وصوله إلى القاهرة استقبل الكواكبي استقبالا حافلا من ثوار مصر ومثقفيها، واستقبله الخديوي عباس حلمي الثاني، وقرّر له راتبا، ثم ما لبث أن ذاع صيت مقالاته التي كانت تنشر في جريدة المؤيد، والمرجح أن الكواكبي جمعها بعد ذلك وعمل عليها بالإحكام والتنقيح حتى أخرجها في كتابه الشهير (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد)، ثم قرّر أن يقوم برحلة إلى بلاد إفريقيا وبعض بلدان آسيا ليَرْصُد عن قرب أحوال تلك الشعوب وطبائعها، وما جرّه عليها عسف الحكام وظلم المُستبدين، وقد دَوّنَ مُشاهداته في تلك الرحلة التي استمرت قرابة الستة أشهر، عازما أن تصدر في كتاب، ولكن القدر لم يمهله كما لم يمهله للقيام برحلة أخرى كان قد أعدّ لها لبلاد المغرب العربي.
الديمقراطية.. سلاح الأمة

بهذا الوضوح انطلق الكواكبي في تحديد رفض الدين القويم للاستبداد من خلال زاويتين ألا وهما: التركيز على دور العلماء المسلمين كونهم يتحملون العبء الأكبر لمقاومة الاستبداد حيث يقول: “..يسعى العلماء في نشر العلم ويجتهد المُستبد في إطفاء نوره، والطرفان يَتجاذبان العوام، ومن هم العوام!؟، هم أولئك الذين إذا جهلوا خافوا، وإذا خافوا استسلموا، وهم الذين متى علموا قالوا ومتى قالوا فعلوا..”، والديمقراطية التي يعتبرها سلاح الأمة في مواجهة الاستبداد وطريقها نحو التقدم حيث يقول فيها “….أطلقت الأمم الحرّة حرّية الخطابة والتأليف والمطبوعات مُستثنية القذف فقط، ورأت أن تحمل مَضرة الفوضى في ذلك خير من التجديد لأنه لا ضامن للحكام أن يجعلوا الشعرة من التقييد سلسلة من حديد يخنقون بها عدوتهم الطبيعية أي الحرية، فقد حمى القرآن الكريم قاعدة الأخلاق بوضعه قاعدة (ولا يضار كاتب ولا شهيد)، وهذه الأمم الموفقة خصصت منها جماعات باسم مجالس نواب وظيفتها السيطرة والاحتساب على الإدارة العمومية السياسية، وذلك مُنطبق تماماً على ما أمر به القرآن الكريم (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمَعروف وينهون عن المنكر… وأولئك هم المفلحون) من التبجيل ما يحمل نفوس الأبرار على تحمل مضض القيام بهذه الوظيفة الشريفة في ذاتها المَمقوتة طبعاً عند المُستبد وأعوانه..”، وفي هذا يضيف زكريا فايد بالقول: “…لم تقف معركة الكواكبي ضد الاستبداد ساعة واحدة بعد أن أخذ على عاتقه مقاومة الظلم حتى الرمق الأخير من حياته، فإذا تصوّر الاستبداد أنه قد انتصر في معركته بدسّ السمّ لهذا الجسد، إلا أن الشّر بقي مُخطئا وخاب هدفه بعد أن تحوّل يوم وفاته في الرابع عشر من يونيو 1902 إيذانا بميلاد فجر جديد كشف عن الوجوه المُتلعثمة وشكل صيحة زلزلت قواعد الاستبداد بعد أن شهدت على كون الكواكبي بطلاً وشهيداً من شهداء معركة الحرّية والإسلام…”.

خصال ومواقف

يعتبر الكواكبي من أوائل الداعين إلى القومية العربية وضرورة قيام الوحدة بين الأقطار العربية لمواجهة أعداء الأمة وخاصة الأتراك الذي عاثوا في الأقطار العربية فسادا، وساموا الناس سوء العذاب في احتلال كئيب وطويل امتد لقرون، كان الكواكبي يرى في العرب من الخصال والفضائل ما ليس في غيرهم، وكان يراهم أولى الناس بقيادة أمة الإسلام لتحريرها من نير المُستعمر المُستبد، ويقول الكواكبي بهذا الخصوص “….العرب هم أقدم الأمم اتباعا لأصول تساوي الحقوق وتقارب المراتب في الهيئة الاجتماعية، وأعرق الأمم في أصول الشورى في الشؤون العمومية، وأهدى الأمم لأصول المعيشة الاشتراكية، وأحرص الأمم على احترام العهود عِزّةً، واحترام الذمة إنسانيةً، واحترام الجوار شهامةً، وبذل المعروف مروءةً، وهم أنسب الأقوام لأن يكونوا مرجعا في الدين وقدوة للمسلمين، حيث كان بقية الأمم قد اتبعوا هديهم ابتداء فلا يأنفون عن اتباعهم أخيراً، فهم الوسيلة الوحيدة لجمع الكلمة الدينية بل الكلمة الشرقية”، كما كان من أكبر دعاة العدالة الاجتماعية والمبادئ الاشتراكية في إطار رؤية تنطلق من الشريعة الإسلامية التي تحرّم الاستغلال وترفض أكل أموال الناس بالباطل، وفي هذا يقول: “….إن شريعتنا مَبنية على أن في أموال الأغنياء حقاً معلوماً للبائس والمحروم، فيؤخذ من الأغنياء ويوزع على الفقراء، وهذه الحكومات الإسلامية قد قلبت الموضوع، فصارت تَجبي الأموال من الفقراء والمَساكين وتبذلها للأغنياء وتُحابي بها المُسرفين والسُفهاء..”، فألهب من القاهرة روح الثورة في النفوس ضد الدولة العثمانية وسلطانها الطاغية عبد الحميد الثاني، الذي لم يَطق صبراً على تلك الحرب التي كادت جذوتها أن تطاله في إسطنبول؛ فقرّر التخلص من عبد الرحمن الكواكبي، فأرسل له من وضع له السمّ، ليلقى الكواكبي ربه شهيداً بعد أن قضى حياته القصيرة التي لم تتجاوز الثمانية والأربعين عاما في نضال مُستمر ضد المستبدين، وكفاح لا يهدأ لنصرة المَظلومين، ولم يكتف السلطان عبد الحميد بقتل الكواكبي، بل أرسل من استولى على مخطوطات كتبه التي لم تكن قد طُبعَتْ بعد، ومنها مخطوط بعنوان (صحائف قريش)، وآخر بعنوان (العظمة لله) التي كان نتاج مشاهداته المتكرّرة في افريقيا وآسيا على حدّ سواء،فخرجت القاهرة بشيبها وشبابها في وداع الثائر النبيل، داعية الوحدة العربية والعدالة الاجتماعية الذي ستظل سيرته وأعماله وأفكاره زاداً مُلهماً لكل ثائر إلى ما شاء الله، وكان شاعر النيل حافظ إبراهيم قد رثا عدو الاستبداد ودولته وبكلمات نقشت على قبره تقول:

هنا رجل الدنيا هنا مهبط التقى    
هنا خير مظلوم هنا خير كاتبِ
قفوا واقرأوا أم الكتاب وسلموا      
عليه فهذا القبر قبر الكواكبي

> إعداد: معادي أسعد صوالحة
كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في المغرب

Related posts

Top