عاش المغرب، نهاية أربعينات القرن الماضي، وبداية خمسينياته، أحداثا دموية واسعة النطاق كرد فعل على إقدام المستعمر الفرنسي على نفي الملك الراحل محمد الخامس خارج الوطن. خلال هذه الفترة العصيبة، ومن رحم الغليان الشعبي، والانتفاضات العارمة التي واجهتها الإدارة الاستعمارية الفرنسية بالقمع، تأسست مجموعة من التنظيمات السرية التي حاولت الرد على هذا النهج القمعي، كان أبرزها على الإطلاق منظمة “الهلال الأسود” التي اعتمدت أساليب شكلت ضغطا على المستعمر وأذنابه من الخونة.
من داخل هذه المنظمة، برزت أسماء سيظل تاريخها محفورا في ذاكرة المقاومة، سواء منها تلم التي تعرضت للاعتقال أو الاغتيال أو تلك التي كتب لها النجاة لتروي للأجيال أحداثا قوية مفعمة بالوطنية والغيرة على هذا الوطن.
المقاوم عبد القادر بهيج من هؤلاء المقاومين الذين يكتب التاريخ نشاطهم ضمن التنظيم السري”الهلال الأسود”، والذي رغم تقدمه في السن استقبل بيان اليوم ليروي ما علق في ذاكرته من وقائع وأحداث نقدمها لقرائنا فيما يلي:
اعداد: محمد توفيق امزيان
الحلقة 11
بعد قدوم الفريق الخاص من الدرك والشرطة والجيش بحافلة خاصة لنقلنا إلى جانب معتقلين آخرين بالسجن المركزي بالقنيطرة، توجهت بنا الحافلة إلى العاصمة الرباط، وبالضبط إلى سجن لعلو.
هناك سيتم وضعنا في زنازين انفرادية ومظلمة، وسنمنع من الخروج ومن اللقاء، وسيبدأ فصل جديد من التحقيق معنا، وبطريقة فردية أيضا، حيث كانت تأتي سيارة خاصة تقل كل مسجون على حدة لمحكمة محاذية للقصر الملكي، داخل ما يسمى بـ “التواركة”.
استمرت الأبحاث معنا بشكل مستمر، وكالعادة كل على حدة ويمنع علينا أن نلتقي برفاقنا بأي شكل من الأشكال لمدة أشهر طويلة، وكان البحث يجري بشكل متكرر وبنفس الأسئلة والروتين، وكنا نحكي عن تفاصيل حياتنا ونشأتنا وكل شيء بالتدقيق الممل، وهكذا أضحت التحقيقات روتينية مرة كل شهر تقريبا.
طيلة مدة إقامتنا بالسجن، ومللنا في السجن الانفرادي، سيجعلنا نتعرف على حارسين بالسجن، وكانا في السابق مقاومين، وباتفاق معهم، ذلك أنهم نسقوا بيني وبين رفاقي الآخرين الذين اعتقلا معي في البداية من أجل أن نفر من السجن ونهرب خارج أسواره.
بالفعل، التقينا لأول مرة بعد شهور طويلة من العزل بالغرف الانفرادية بالسجن، محاولين الفرار، كما أرشدنا لذلك الحراس، لكن مع الأسف ستفشل مناورتنا تلك، وسيتم القبض علينا، ليتم تشديد الحراسة علينا وإضافة تهمة محاولة الفرار من السجن إلى مجلد التهم الذي وجه لنا.
وكانت التهم الموجهة لنا وإلى معتقلين آخرين من تنظيمات مختلفة جد قاسية، حيث تم توجيه تهم التمرد والعصيان ومس سلامة الدولة ومحاولة إسقاط النظام، وحمل سلاح بدون ترخيص، ثم انضافت محاولة الفرار أيضا.
بعد المحاولة الفاشلة، وتشديد الحراسة، سيتعمق البحث، قبل أن يتم في إحدى الأيام نقلنا من جديد وإعادتنا إلى السجن المركزي بالقنيطرة، وهو سجن ذائع الصيت، كل المعتقلين فيه لا تقل مدة محكوميتهم عن 10 سنوات، إذ كان يعرف بالحبس الذي يضم عتاة المجرمين والقتلة والمحكومين بالأحكام الثقيلة والإعدام..
في السجن المركزي بالقنيطرة، سيتم أيضا وضعنا في غرف انفرادية معزولة، إمعانا في الانتقام منا، وتشديد العقوبة علينا، وتعذيبنا نفسيا، حيث استمر هناك مقامنا طويلا، بعدما كانت الأبحاث والتحقيقات معنا قد انتهت في المحكمة العليا بالرباط.
استمر الوضع على ما هو عليه، إلى وقت لاحق، حيث سيتم السماح لنا بأن نكون في عنبر واحد أنا وصديقاي قاسم الغرباوي والآخر الملقب بـ “بعيرة”، وهكذا شعرنا بقليل من التخفيف.
لكن سرعان ما سيتلاشى هذا التخفيف وهذا الشعور بالأمل، حيث وفي إحدى الأيام، كان قد تبقى للعيد ثلاثة أيام فقط، جرى المناداة علينا، قلنا إن الأمر ربما يتعلق بإطلاق سراحنا في هذه المناسبة، وأنه تم التأكد من براءتنا.
تم نقلنا من جديد إلى العاصمة الرباط، في تلك الأيام التي يستعد فيها الجميع لمناسبة العيد، ودخلنا إلى المحكمة العليا، هناك استقبلنا أحد الأشخاص وأخبرنا ببرودة دم، أنه تم النطق بالحكم ضدنا بـ 15 سنة سجنا نافذا، لا أخفي عليكم أني شعرت بالخذلان أنا ورفاقي، خصوصا وأن الحكم جاء قاسيا وفي تلك المناسبة المجيدة.
بالموازاة مع ذلك، وجدنا ثلة من المقاومين أيضا هناك، والذين نالوا نصيبهم من “هدية العيد”، إذ جرى النطق بالحكم بـ 40 سنة في حق شخصين، و40 عام أيضا في حق كل من مصطفى السربوتي، ومصطفى باموس، اللذين كانا معنا في تنظيم “الهلال الأسود”، كما تم النطق بالحكم بـ 20 سنة في آخرين..
بعد استيعابنا للصدمة، سينقلب الأمر إلى شيء من الهزل للتخفيف عن ما نزل بنا، حيث اعتبرنا الأمر هدية بمناسبة العيد واستقبال لنا، محاولين الخروج من الشعور الذي خلفته تلك الأحكام القاسية في نفوسنا..