كلما تطورت وتعقدت العولمة، كلما، أحسسنا أننا في حاجة إلى الاحتماء بالفنون، لكونها رهان جميل وإنساني من الممكن التمسك بها، حتى لا نصاب بالتلف والتلاشي الثقافي، بل وحتى نحافظ على الجميل فينا، لاسيما والفنون، وبكل مكوناتها (مسرح وفوتوغرافيا وسينما وشعر وغناء وتشكيل..)، عادة ما ترتبط بكينونتنا، ومن خلالها يخاطبنا ويذكرنا من يبدعها، بقيمة القيم وجمالها وبعدها الإنساني..
الفنون، إذن، هي اليوم شرط من شروط استمرارنا فوق هذه الأرض. بها، نحقق توزنا النفسي والروحي والاجتماعي، بل بها، نقول لا لكل أشكال العنف والقبح والتطرف والتكفير، بل، بها، نستحضر جروح الحروب، في أفق عدم تكرارها، إلى حد طرح السؤال، من يقتل من؟ ولماذا صناعة السلاح، عوض صناعة الفرح والفرجة وتكسير الحدود بين الدول والشعوب، إلى حد، أن نبل الفن يصل إلى كون الإنسانية هي قانون هذا الكون، ومن تم من يفرح الناس ويمتعهم، هو الأصل، ودون هذا، هو مكر السياسية السياسوية، التي لا “تنتعش” إلا بلغة القتل وتدمير الجميل في الحياة.
الفن، إذن، ترميم جميل للإنسان، تذكير له بكونه هو الأصل، بل هو الحياة والأمل، ودون هذا، هو اللافن، أي نهب للجميل فينا، وجعلنا، ننشغل بما يريد “كبار” هذا العالم، الذي يتلذذون بجروحنا، لكن، وحده الفن، ما و من نحتمي به، لينتشلنا من أياديهم، ويعزف لنا سمفونية جميلة نتمايل على إيقاعاتها، ونفرح بكينونتنا الإنسانية كميزة تميزنا عن باقي الكائنات.
هذه هي الفنون، وهي في اللغة العربية، كلمة “أنثى” أثناء جمعها (فن/فنون)، تتغلب على ذكوريته في المفرد (فن). هي اليوم، “سلاح” حقيقي له بعد ثقافي، بل، “سلاح” مضاد لكل الأسلحة الفتاكة التي تفتك الإنسانية على مدار الزمن.
1/ في الحاجة إلى الفنون، في الحاجة إلى فرجة الرما:
فضلت، أن أقدم لكلامي عن فرجة الرما باعتبارها فنا شعبيا جماعيا بدويا، بهذه الخلفية النظرية البسيطة، التي تذكرنا في كون الفنون، هي حاجة، بل، من الصعب فهم الذات والآخر والعالم، دون فن، بل الفن في فهم عال له، هو ما تنبشه الذات والآخر والعالم، في كل ما هو إنساني يخاطب العقل والوجدان.
لازلت، أتذكر سنة 1985، وبالضبط برحاب كلية الآداب والعلوم الإنسانية بمراكش، حينما أنجزت بحثا مغامرة، تتعلق بعبيدات الرما. بحث، كان تحت إشراف الأستاذ عبد الله المعاوي (أطال الله عمره)، في زمن جامعي مغربي، كان معروفا بكون معظم بحوثه، آنذاك، كانت تتعلق بالإبداع العالم (بكسر اللام)، أي الإبداع الموثق والمدون بأسماء مبدعيه (شعر فصيح، روايات، مسرحيات، الخ). منذ هذه السنة، وعلاقتي تتطور بهذه الفرجة الشعبية، من خلال العديد من المقالات والدراسات والمشاركات العلمية حول فن الرما، والاستضافات الإذاعية التلفزية المتعددة، لشرح أهمية وقيمة هذه الفرجة الشعبية وغناها التاريخي والثقافي الشعبي، الخ.
لا زلت أتذكر أيضا، “غرابة” العديد من شيوخ الرما (معظمهم رحلوا إلى دار البقاء)، و”أنا” أدون ما كانوا يرددون علي من أغانيهم المندرجة ضمن ما هو غزلي أو مدحي نبوي أو ما ارتبط بالمقاومة الشعبية، الخ.استمتعت كثيرا بكرمهم الاجتماعي والثقافي الشعبي. كانوا يقولون لي (واش هد شي تتقراو عليه؟.). (مع الأسف لم أكن أتوفر على آلة تصوير ولا آلة تسجيل. كان امتلاكهما في ذلك الوقت من باب المستحيلات على طالب بسيط آت من كلية الآداب).
رحمهم الله، كانوا بسطاء في كل شيء، يرتجلون الغناء الشعبي والضحك، تغنوا بقيمة قيمهم الشعبية التاريخية والإنسانية، كانوا حينما يخرجون أدواتهم النقرية (المقص والبندير والطعريجة)، كانوا يقولون لي: (نديرو شي بركة لضيفنا). رحمهم الله، كنتم أطلب منهم، قصيدة الشجعان. هي قصيدة تشم فيها رائحة الخيل والبارود ودحر العدو المستعمر:
دويدة وحدو …قتل ميات عدو
دويدة شاد لقنوت….اللي دازيموت
دويدة في الحبس….يا قلوب الضس
ندبو يا لعيالات…..راه دودة مات
حفظت العديد من أغانيهم، ولازلت حافظا لها إلى يومنا هذا، واستمتعت كثيرا بطبيعة “ميزانهم” الذي لن نجده في فرجة أخرى ولا عند مجموعة أخرى. كان “ميزانا” نابعا من أعماقهم الوجدانية، ربطوا بينه وبين وظيفتهم في بواديهم. أحيانا، حينما نخرج فنا بدويا، من فضائه الطبيعي البدوي، نحو المدينة، قد يصاب بما يمكن أن يصاب به. (هكذا أشعر).
كنا حينما نتحلق حول طاقم إذاعة طنجة، وبمدينة أبي الجعد، على هامش موسم بوعبيد الشرقي، بدءا من أواسط الثمانينيات، مع الراحل سي خالد مشبال وغيره، يسألون ضيوفهم، وكنت بينهم، كنا، نجيب لابد من التفكير في فكرة ما تجمع شتات هذه الفرجة، كان الناس يسألون من خلال خط الهاتف الأرضي، من مدن مغربية عديدة، لاسيما تلك المدن التي كانت بعيدة عن موطن الرما الأصلي (قبائل بجعد ووادي زم)، عن طبيعة هذه الأغاني؟ وما المقصود بالرما؟.
ا/مدينة برشيد واحتضان النسخة ما قبل الأولى للمهرجان الوطني لعبيدات الرما:
قبل بداية النسخة الأولى للمهرجان الوطني لعبيدات الرما، بمدينة خريبكة، على اعتبار أنها المدينة “العاصمة” للإقليم، أتذكر دعوة توصلت بها من لدن المندوبية الإقليمية لوزارة الثقافة بخريبكة، والتي كانت حديثة العهد والتأسيس، وكان أول مندوبها، الأستاذ سي صالح الدكاني (شافاه الله)، وقد أنجز بدوره بحثا حول عبيدات الرما، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بفاس، تحت إشراف سي حسن لمنيعي، وقد شكل هذا البحث بالنسبة لي مرجعا خصبا وأساسيا، هذه الدعوة كان مفادها مشاركتي في ندوة وطنية حول الرما صحبة سي حسن البحرواي والراحل المتميز والعاشق للعيطة والرما سي محمد بوحميد رحمه الله. تميز هذا اللقاء الأول لفرجة الرما بحضور مجموعات شعبية وكمن مدن مغربية متعددة طغى عليها الحضور الوازن لشيوخ الرما المنتمين لمنطقة خريبكة.
ب/خريبكة … واحتضان النسخة الأولى لعبيدات الرما:
كان من الضروري، أن تبدأ رحلة الرما، وبالضبط في صيغة مهرجان وطني، من هنا من خريبكة، وأن تبصم العديد من المكونات الإدارية على هذا المهرجان، الذي يقترب نحو النسخة العشرين والتي سيحتفل بها مؤسسوه سنة 2020، وهذه السنة (2019) ستكون إن شاء الله، النسخة رقم 19، وهذا يعني أن المهرجان الوطني لعبيدات الرما، قد خلق تراكما مهما، لاسيما وأنه استطاع أن يحافظ على نظاميته، ثم لكونه انطلق من نقطة “الصفر”، وقصدي بهذا، لم يكن في السابق أي مهرجان داخل الإقليم له اهتمام بالرما، الذين اقتصرت وظيفتهم على تنشيط الأعراس وموسم بجعد السنوي (لازال هذا التنشيط مستمرا إلى الآن).
هذا المهرجان ومنذ، البدء، احتضنه القطاع الذي ينتمي إليه هذا المكون الثقافي الشعبي، أي وزارة الثقافة، بتعاون وتنسيق مع العديد من القطاعات الإدارية المحلية والإقليمية والجهوية والجمعوية والجامعية، الخ.
ج/ ماقبل وما بعد المهرجان الوطني لعبيدات الرما:
من الممكن الحسم، في كون، وما عدا فرق الرما الشيوخ بكل من مدينة وادي زم وأبي الجعد، وبعض الفرق الشبابية النادرة، والتي كانت تمارس هذا الغناء صحبة ألوان غنائية شعبية أخرى، فقد كان المشهد العام لفرجة الرما على المستوى التسويقي والإنتاجي الإعلامي والفني، الخ، محدودا جدا، بل كانت هذه الفرجة شبه غائبة إن لم تكن معدومة لدى مناطق مغربية بعيدة عن وادي زم وبجعد وخريبكة.
أثناء تأسيس هذا المهرجان الذي ساهمت فيه العديد من المكونات الإدارية الثقافية وأسماء من الحقل الثقافي بالمدينة والإقليم وأسماء أخرى من خارج إقليم خريبكة من فضاءات جامعية وإعلامية ورقية وتلفزية وإذاعية، (تقصدت أن لا أذكر أسماء أشخاص، خوفا من نسيان بعضها، والعديد من هذه الأسماء ليست في حاجة إلى ذكر هنا، لكونها تشتغل في صمت، ولا تتهافت على الأضواء)، لاحظنا، وكأن هذا المهرجان أتى لإعطاء طابع قيمي ووثوقي لهذه الفرجة.
ندوات فكرية عديدة وتكريمات وحلقات إذاعية وتغطيات إعلامية من لدن الصحافة المحلية والوطنية، وتغطيات تلفزية (أستحضر من حلقاتها الأولى، حلقة خاصة لبرنامج رياض الفكر بالتلفزة المغربية)، وسهرات متعددة، وفي فضاءات عمومية مفتوحة، كل هذا لفت انتباه الشباب إلى قيمة هذه الفرجة على مدار كل هذه السنوات، الطوال، فأصبحنا اليوم، أمام فرق شبابية عديدة، البعض منها تمكن من تجاوز الحدود الوطنية والسفر بهذه الفرجة إلى بقاع عديدة من الدول العربية والأوروبية وغيرها، بل تمكنت حتى السينما المغربية من توظيف إيقاعات وفرجة الرما لغاية سينمائية فنية، أستحضر هنا، على سبيل التمثيل لا الحصر، فيلم “بولنوار” لمخرجه حميد الزوغي، والرواية هي من توقيع الباحث المغربي، ابن المنطقة، عثمان أشقرا، وقد حولها إلى الكتابة السيناريستية، ابن المنطقة أيضا بلعيد كريديس.
2/ في البحث عن الفرجة الشعبية، بلغة أكاديمية:
اليوم، فالمدينة والإقليم ككل، ربطا اسمهما بفرجة الرما، وأصبح هذا المهرجان موعدا رسميا وقارا وعلى رأس كل سنة، فعلى الأقل المهرجان تمكن من أن يحافظ على استمراريته، وجعل لفظة الرما تتداول على الألسن، وتوفير مادة ثقافية حول الرما.
صحيح، نحن أمام انتظارات عديدة تتعلق بضرورة توثيق وزارة الثقافة لهذا الفن على غرار ما قامت به لفائدة بعض الفنون المغربية الأصيلة مثل الموسيقى الأندلسية، الخ، ولم لا التفكير في تجميع جميع الندوات الفكرية، (ما هو متوفر)، وطبع مؤلف جماعي حول فن الرما، وجعله، في متناول الباحثين والطلبة، وكل المهتمين بفن الرما.
يبدو، لي، هنا، أن الحاجة ماسة إلى ربط الكلية بمحيطها الثقافي الشعبي، لاسيما في ظل الجهوية الموسعة التي يعرفها المغرب، وهي جهوية من الصعب أن تحقق غاياتها ومراميها خارج شرط الثقافة، ولاسيما الشق الشعبي منها.
أكيد، أن نفس السؤال، من الممكن أن يطرح على مستوى توثيق العديد من الفنون الشعبية على مستوى كافة الجهات المغربية، مما يجعلنا نوسع حلمنا، وبجانب المقترح الجهوي المقترح، هنا، نحو التفكير، في كلية متخصصة في هذه الفنون الشعبية الوطنية ككل .
إن أي تنمية محلية أو إقليمية أو جهوية أو وطنية، جديدة، إن لم تضع سؤال المعرفة والثقافة والبحث العلمي، في مقدمة اهتماماتها، يبدو لي، أنها رؤية منبثقة فقط من سؤال الحاجة الآتي من الآن ، ودون التفكير في الغد القريب أو المتوسط أو البعيد. كلما فكرنا في مدرسة أو مرفق عمومي آخر، له علاقة بصحة المواطن أو له صلة بحاجة من حاجاته المتعددة، فلنفكر في كون الفنون، أيضا، والفرجة بكامل أنواعها (مسرح، سينما، الخ)، هي بدورها حاجة، أصبح العالم، اليوم، (لاسيما من قطع أشواطا في الرقي والتقدم)، لا يفرق بين الحاجة المادية والثقافية والعلمية والفنية، بل جعل كل حاجيات الإنسان، في “سلة واحدة”، وتنافس أهل السياسة عندهم، من يبرع في تقديم الأجود والأجمل للمواطن.
غايتي، إذن من هذا المقال المكثف، أن أنبش في ذاكرة مهرجان، وكيف كان وضع الفرجة قبل مجيئه، وماذا حدث بعده، وكيف من الممكن دمج كل أشكال الفرجة الشعبية المميزة لجهة بني ملال خنيفرة في أي شكل من أشكال التنمية، دون نسيان أن تحتل أسئلة المعرفة والفن والثقافة، داخل الجهة، الخ، ومن زاوية بحثية علمية المكانة الأساسية، لاسيما وقطاع الثقافة الشعبية والعالمة ككل، هو اليوم، مجال مفيد ومحدث للتشغيل. ناهيك، عن كون الكثير من المواصفات المنتظر تحقيقها في صفوف المتعلمين، وفي مقدمتها التربية على محبة الوطن، من الصعب تحقيقها بمعزل عن تحبيبه لفنونه بشكل عام، ولاسيما فنونه الشعبية الجماعية ذات العمق الفني والجمالي والإنساني، بل هي التربة التي تلبس بها أجداده وأبدعوها دون التفكير في تمليكها، بل ملكيتها الفكرية اليوم، هي ملكية شعبية، ولعل هذا سر آخر من كون الفرجة الشعبية الجماعية المغربية، وفن العيطة، كمثال آخر، ما يفرض علينا التفكير العلمي فيها، ومواصلة رحلة المهرجان الوطني لعبيدات الرما، وتوفير كافة حاجياته، لكونه يرجع له الفضل، في نشر هذه الفرجة داخل وخارج المدينة، بل خريبكة اليوم ومدنها المجاورة معروفة، ومن جملة ما هي معروفة به، بجانب كرة القدم والسينما والفوسفاط، فرجة الرما. فهل وعينا بقيمة فرجة فنونا المغربية الشعبية في جعلها تمارس قيمتها الديبلوماسية المحلية والدولية؟ رحم الله كل شيوخ الرما، الذين تربينا في فرحتهم، وتعلمنا من خلالهم قمة التعايش والتسامح والفرجة العائلية الجماعية، حيث الأم والأب يرقصان جنبا لجنب، بجانب العم والخالة وبنت الخال والجارة، الخ، دون أن نسمع للغة منكرة لهذه الفرحة الجماعية الجميلة. مرة أخرى رحم الله شيوخ الرما، وكل الصحة والعافية لمن لا زال على قيد الحياة، وكل التقدير لمن بصم مشهد الرما ومهرجانهم الوطني، ببصمة وغادر دار البقاء، أو لا زال على قيد الحياة، دون رغبة في القبض على “ضوء”ما.
> بقلم: الحبيب ناصري