شكل فوز اليسار الفرنسي في الانتخابات البرلمانية التي أجرتها البلاد مؤخرا مفاجأة للكثيرين، وسارع زعماء الاتحاد الأوروبي إلى التعبير عن ارتياحهم لعدم وصول حكومة قومية إلى السلطة في فرنسا. وقال رئيس وزراء بولندا دونالد توسك عبر منصة إكس إنه “سعيد” بنتيجة الانتخابات الفرنسية. وغرّد رئيس المجلس الأوروبي السابق “حماسٌ في باريس، خيبة أمل في موسكو، ارتياحٌ في كييف”.
كما غرّد رئيس وزراء إسبانيا عبر إكس مشيدا بـ”رفض اليمين المتطرف” من قبل ناخبي فرنسا، وقال إنهم اختاروا “يسارا اجتماعيا، يتناول مشكلات الشعب بسياسات جادة وشجاعة”. وأعرب المستشار الألماني أولاف شولتس عن “ارتياحه” أمام الصحافيين وقال “نأمل أن يتمكن الرئيس (إيمانويل ماكرون) وأعضاء البرلمان المنتخبون من تشكيل حكومة بناءة”.
وفي أعقاب الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية الفرنسية التي جرت يوم 30 يونيو، ثارت توقعات بفوز حزب “التجمع الوطني” اليميني المتطرف بالأغلبية، بواقع 289 مقعدا، وهو ما من شأنه أن يجعل الحزب في وضع يسمح له بتشكيل الحكومة المقبلة، حيث كان رئيس الحزب جوردان بارديلا سيصبح، دون شك، رئيس الوزراء الجديد.
ورغم الانتكاسة في الجولة الثانية من الانتخابات التي جرت يوم 7 يوليو، حقق “التجمع الوطني” نتيجة تاريخية، بواقع 142 مقعدا، بفضل موقفه المناهض للهجرة، مقابل 89 مقعدا في انتخابات 2022. وتمثل النتيجة الأخيرة قفزة استثنائية هائلة مقارنة بثمانية مقاعد حققها “التجمع الوطني” في 2017. وعلقت زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان بقولها “يواصل المد ارتفاعه، وفوزنا اليوم تأخر فقط.”
لكن في الجولة الثانية احتل التحالف اليساري “الجبهة الشعبية الجديدة” صدارة الانتخابات التشريعية الفرنسية. ومن إجمالي مقاعد مجلس النواب الفرنسي، 577 مقعدا، جاء تحالف “الجبهة الشعبية الجديدة” في المرتبة الأولى بواقع 188 مقعدا، يليه ائتلاف ماكرون “معا” (تيار الوسط) بـ161 مقعدا، ثم حزب “التجمع الوطني” بزعامة لوبان، بـ142 مقعدا.
وجمع تحالف “الجبهة الشعبية الجديدة”، الذي تشكل الشهر الماضي فقط، الاشتراكيين والخضر والشيوعيين، وحزب “فرنسا الأبية”، ضمن تحالف حزبي واحد، رغم الانقسامات الشديدة التي سادت بين هذه الأحزاب، حيث كانت خاضت الانتخابات الأوروبية (6 – 9 يونيو) بشكل فردي.
يشار إلى أن حزب “فرنسا الأبية”، بزعامة جان لوك ميلانشون، هو الحزب الرئيسي ضمن تحالف “الجبهة الشعبية الجديدة”، ويعد كيانا مثيرا للانقسام، ونقمة على أحزاب اليمين والوسط، وقد أثار نفور العديد من الأحزاب اليسارية.
ويتضمن البرنامج الأساسي للتحالف زيادة كبيرة للحد الأدنى للأجور، وإلغاء إصلاحات نظام التقاعد في فرنسا، وخفض سن التقاعد من 64 إلى 62 عاما. وعقب نتائج الجولة الثانية، سارع ميلانشون وطالب الرئيس ماكرون بتعيين رئيس وزراء من التحالف اليساري، وقال إنه يتعين على “الجبهة الشعبية الجديدة تنفيذ برنامجها، فحسب”، ورفض الدخول في مفاوضات مع حزب ماكرون “الجمهورية إلى الأمام”.
ورغم أن الانتخابات التي جرت يوم الأحد الماضي شهدت تقدم تحالف “الجبهة الشعبية الجديدة” اليساري، من حيث عدد المقاعد، كان “التجمع الوطني” اليميني المتطرف، وحلفاؤه، إلى حد بعيد الحزب الذي نال العدد الأكبر من الأصوات، بواقع حوالي 37 في المئة، مقابل 26 في المئة للجبهة الشعبية.
وجاء تحالف ماكرون الليبرالي “معا” في المركز الثالث، حيث فاز بنحو 24 في المئة من أصوات الناخبين. ويقضي النظام الانتخابي في فرنسا باختيار المرشح الفائز بأغلبية الأصوات في كل دائرة من الدوائر الانتخابية التي يبلغ عددها 577، مباشرة لشغل مقعد في الجمعية الوطنية.
وشكل اليسار وقوى الوسط التابعة لماكرون ائتلافا يقوم على المصلحة، قبل الجولة الثانية من التصويت، وذلك على المقاعد التي لم يتم تحديد فائزين بها في الجولة الأولى. ومن أجل تجنب تفتيت الأصوات بين أعضاء الائتلاف في الدوائر الانتخابية التي وصل ثلاثة مرشحين بها إلى الجولة الثانية، انسحب مرشحو أحزاب اليسار أو الوسط بشكل إستراتيجي. وبهذه الطريقة، صار المرشح الباقي
يتمتع بفرصة أفضل للتغلب على مرشح حزب “التجمع الوطني”. كما دعا تحالف “الجبهة الشعبية الجديدة” وائتلاف الوسط الليبرالي أنصارهما إلى التصويت ضد “التجمع الوطني” في جميع الأحوال.
وقالت رئيسة وزراء إيطاليا جورجيا ميلوني “إذا نظرنا إلى ما حدث في فرنسا، لا يمكن لطرف ادعاء الفوز… لم يثبت أي من الأطراف الثلاثة نفسه، ولا يستطيع طرف تولي مقاليد الحكم منفردا.” وفي أعقاب نتائج الانتخابات، بدأ اقتصاد فرنسا، وهو ثاني أكبر اقتصاد في منطقة اليورو، مواجهة فترة من الغموض السياسي وعدم الاستقرار، قبل انطلاق دورة الألعاب الأولمبية في باريس (باريس 2024) في 26 الشهر الجاري.
ويتوقع أن يسبب المشهد السياسي، المفاجئ، الذي خلفته الجولة الثانية من الانتخابات، انقساما كبيرا داخل الجمعية الوطنية، في ظل غياب طرف يتمتع بالأغلبية الواضحة. وفرنسا حاليا في سبيلها لدخول مرحلة غامضة للغاية من بناء التحالفات، وهي دولة ليس لديها هذا التقليد. وفي حال عدم تمكن أي كتلة برلمانية من تحقيق أغلبية لتشكيل الحكومة، يمكن أن تواصل الحكومة الحالية تسيير الأعمال، بشكل مؤقت، أو تعيين حكومة خبراء (تكنوقراط).
وفي إطار هذا السيناريو، ستواجه فرنسا مأزقا سياسيا، ولا يمكن للرئيس حل البرلمان مرة أخرى وإجراء انتخابات جديدة حتى يوليو عام 2025. وفي أعقاب الانتخابات، قدم رئيس الوزراء الفرنسي غابرييل آتال، الذي ينتمي لحزب ماكرون، استقالته، للرئيس، والتي قوبلت بالرفض. وطلب ماكرون من آتال البقاء في السلطة، مؤقتا، إلى حين انتهاء الدورة الأولمبية، وطمأنة المجتمع الدولي والأسواق الدولية.
وأعلنت مصادر الرئاسة الفرنسية أن ماكرون سيأخذ وقتا حتى تشكيل الجمعية الوطنية الجديدة لاتخاذ قرار بشأن الحكومة المقبلة، التي سيجرى تشكيلها. ويمكن للرئيس ماكرون الانتظار إلى ما بعد العطلة الصيفية للبرلمان لتعيين رئيس وزراء جديد. ورغم ذلك، ستعقد الجمعية الوطنية المنتخبة حديثا أولى جلساتها يوم 18 يوليو، لانتخاب رئيس للبرلمان. ثم يجرى في اليوم التالي اتخاذ قرارات بشأن نواب الرئيس، وتشكيل اللجان البرلمانية.