في الحاجة إلى التربية الإعلامية

في ظل النقاش المحتدم حول إصلاح منظومة التربية والتكوين، الذي بات يعاني من تخمة في التشخيص، هناك جانب مهم يتم التغاضي عنه – عن وعي أو عن غير وعي – والحديث هنا عن مفهوم “التربية الإعلامية” « L’éducation aux médias et à l’information ».

وتهدف التربية الإعلامية بكل بساطة إلى تمكين الفرد من المهارات والكفايات اللازمة للتعامل الأنسب مع المحتوى الإعلامي، استهلاكا وفهما وتحليلا ونقدا وإنتاجا.

ولأن التربية الإعلامية ليست ترفا تربويا كما قد يعتقد البعض، أو اختيارا ثانويا لا يستحق أن يندرج ضمن سلم أولويات إصلاح منظومة التربية والتكوين بالمغرب، كما قد يتصور البعض الآخر، فإن منظمة “اليونسكو” تعتبر – من موقعها – أن التربية الإعلامية جزء من الحقوق الأساسية لكل مواطن، في كل بلد من بلدان العالم، ويجب إدماجها حيثما أمكن، ضمن المناهج التربوية الوطنية وأنظمة التعليم غير الرسمية والتعليم مدى الحياة، وذلك في أفق بناء جيل قادر على العيش في سلطة الصوت والصورة والكلمة. 

يجد النقاش المرتبط بالإعلام منفذا له داخل كل النقاشات التربوية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وأصبح الإقرار بالخطر الذي يشكله أمرا بديهيا غير قابل للتشكيك، وصار الكل المختلف، متفقا أن الإعلام هو السبب الرئيس في الكثير من النكسات القيمية والثقافية، غير أن الأمر يقف عند مسألة الإقرار، لينتقل بعدها لمرحلة لعن الإعلام والظلام، في الوقت الذي كان فيه غيرنا قد بدأ منذ مدة في إضاءة الشموع، عبر تبني مشروع التربية الإعلامية وتوفير كل الضمانات لإنجاحه.

لقد اقتصرت سبل مواجه الخطر الإعلامي في السابق على نحوين اثنين، إما عن طريق المنع، وهو الأمر الذي يفضي دائما إلى نتائج عكسية، وإما من خلال التنبيه المتواصل المتكرر حول هذه الخطورة دون تقديم آليات وحلول منهجية للتعامل معه، وهو ما يزيد من تيه الفرد ويسفِّه من جدية الخطر ويقلل من المناعة النقدية لديه، فالمحتوى الإعلامي يتم إعداده بشكل منهجي، وبالتالي مواجهته ينبغي أن تكون بشكل منهجي أيضا.

قبل بدابة كتابة هذه الأسطر، كنت قد اطلعت على نماذج كثيرة لتجارب رائدة في المجال، في أوروبا وأمريكا وحتى في بعض الدول العربية، ولأني أعرف أن المسؤولين عندنا لا يقتنعون إلا بالنموذج الفرنسي الذي نسخنا منه كل شيء، إلا الصالح، فإني أطمئنهم أن التجربة الفرنسية هذه المرة رائدة هي أيضا، وقد امتدت هذه التجربة لأزيد من ثلاثين سنة وشملت عدة أوجه، وذلك من خلال مركز متخصص في تدريس التربية الإعلامية يعرف اختصارا بـ « CLEMI » أو من خلال نشاط سنوي تحتضنه كل المؤسسات التربوية الفرنسية يحمل اسم “أسبوع الصحافة ووسائل الإعلام داخل المدرسة”، أو عن طريق تضمين مجموعة من المواد الدراسية، في مختلف المستويات،  دروسا في الموضوع.

إن أي نقاش يهم إصلاح التعليم ويغفل المدخل الإعلامي هو نقاش ناقص، وأي مشروع يتوخى إصلاح هذا القطب الحيوي ولا يدرج التربية الإعلامية ضمن أولوياته، هو مشروع ناقص أيضا، لأن عدم تبني مشروع التربية الإعلامية لا يشكل ثغرة أو مكمن خلل في المنظومة التربوية فحسب، بل قد يكون مشروع هدم لهذه المنظومة بأكملها، والتساهل مع هذه النقطة قد يضيع علينا سنوات من البناء.

أضحى الإعلام أكثر من أي وقت مضى الموجه الأكبر للأفكار والقيم والمعتقدات، مستعينا بما يمتلكه من قدرة على تجديد نفسه وتحديث تقنياته وتحيين أساليبه، متوجها بذلك إلى كل الفئات العمرية ومستهدفا كل فرد من أفراد المجتمع بهدف الاستمالة والإقناع والدفع إلى تبني رؤى قد تكون معدة على المقاس.
إن الهدف الأساس من التربية الإعلامية هو تمكين الفرد من الكفايات والمهارات الأساسية للتعامل بالشكل الأمثل مع المحتوى الإعلامي، استهلاكا وفهما وتحليلا ونقدا وإنتاجا، عن طريق تنمية مهارات التفكير النقدي التي تمكنه من تطوير رؤى مستقلة للحكم على مضمون الرسائل الإعلامية، وتجعله أكثر وعيا بتأثير وسائل الإعلام على الفرد والمجتمع، وأكثر قدرة على مناقشة المحتوى الإعلامي وتقييم الرسائل المختلفة، كما تساهم في تنمية المهارات الأساسية للتساؤل والمعرفة والتعبير عن الذات، وذلك عبر مناهج تربوية واضحة.

لقد أصبح من اللازم العمل على إدراج مشروع التربية الإعلامية ضمن مخططات المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي والوزارة الوصية على القطاع، كما أصبح من اللازم على مؤسسات التنشئة الاجتماعية، كل واحدة من موقعها، وحسب اختصاصها، الانخراط في هذا المشروع، وتسخير المناهج العلمية والكفاءات البشرية اللازمة لإنجاحه وتحقيق أهدافه، والسعي إلى تدريس التربية الإعلامية داخل المدارس، إن لم يكن من خلال إدماج مادة تحت مسمى التربية الإعلامية، فعن طريق إغناء وتطوير المقررات الدراسية وتضمينها محاور ومجزوءات مخصصة للموضوع، وكذلك من خلال مجموع الأنشطة الموزاية التي تهتم برفع الوعي الإعلامي لدى الطلاب، بالإضافة إلى تأهيل الأساتذة وتكوينهم في المجال من خلال التكوين الأساسي الذي يتلقونه داخل المراكز الجهوية للتربية والتكوين.

بقلم: وليد اتباتو

باحث في الإعلام

Related posts

Top