تعرض هذه المختارات من التجارب التشكيلية للفنانين الراحلين بالمغرب بعض الملامح النموذجية الأكثر دلالة في مشهدنا البصري. فهي عتبات تتحدث أبجدية أخرى، وتراهن على مستقبل لا مجال فيه لنزعات التغييب، والطمس، والموت الرمزي. إنها تجارب إبداعية تتسم بفرادتها، شكلا ومضمونا ورؤية، لأنها فضاءات تبوح بهمومنا الصغرى والكبرى، وتكشف عن عوالمنا المرئية واللامرئية، وتشاكس تطلعاتنا وانتظاراتنا الجمالية والمعرفية. في حضرة هذه التجارب المتعددة والمتباينة، نستشف أن الكم هائل كجزيرة لا حدود لتخومها، أو كصحراء لا نهاية لمتاهاتها. ألم يقل الأديب الرائي جبران خليل جبران: «في موت المبدعين حياتهم»؟ فكل افتتان بمنتجي الصور الجمالية الذين مازالوا بيننا هو في حد ذاته افتتان بالذات المهووسة بالحق في الحلم وفي الحياة، وفي المستقبل… فهؤلاء هم الذين يصالحون المتلقي مع الأثر الجمالي. أليس الأثر، بتعبير أمبرطو إيكو، بديلا عن الكون (الأثر المفتوح)؟
أمين الدمناتي .. الشاعر التشكيلي والتشكيلي الشاعر
المبدع الراحل أمين دمناتي (1941-1971) من رواد الفن التشكيلي الحداثي بالمغرب، حيث أسس لمقاربات جديدة على مستوى التشخيصية الجديدة ذات الأبعاد الإيحائية. عندما نستحضر اسمه المرجعي فإننا نستحضر معه سجلا حافلا بالإبداعات التشكيلية التي جمعت بين الأعمال الصباغية والرسومات التمهيدية إلى جانب العديد من القصائد الشعرية، والإسهامات المسرحية. فالراحل بشهادة شقيقه حسن أمين دمناتي ازداد يوم 15 يناير 1942 بمراكش، وترعرع في حضرة خاله محمد تابيتي، وتابع دراسته الابتدائية والثانوية بالدار البيضاء، ليلتحق بعد ذلك بقسم الفنون التطبيقية بثانوية مرس السلطان، قبل أن يستكمل مساره الدراسي في رحاب مدرسة المهن التقنية، والمدرسة الوطنية العليا لفنون الديكور ثم بمدرسة الكتاب بباريس، مدينة الأنوار التي احتضنت أول معرض له عام 1961. بعد عودته للمغرب، عرض أعماله التعبيرية بكل من الرباط ومراكش والدار البيضاء والرباط وفاس والسويد، وشارك في مجموعة من البينالات (ساوباولو، باريس…) ولقاءات متواصلة حول وضعية الفنون في المغرب، كما بادر إلى إنشاء إحدى جمعيات الفنانين التشكيليين المغاربة الأولى.
حول منجز أمين دمناتي البليغ، كتب الناقد الفني الفرنسي غاستون ديل: “لقد عرف الدمناتي الاستثمار الجيد لكل الإمكانيات التي أتيحت له، فمن جهة استعمل بمهارة وبحذق اللون أو الإيقاع الحركي، ومن جهة أخرى، عاد إلى التقليد العريق للعلامة الحروفية، كما استخلصت من مساره الإبداعي العديد من التجارب ذات الثراء الشخصي، يجعلنا حسه الفني السلس نتنبأ له بمستقبل فني كبير… فكل تنويعاته الأسلوبية تثيرنا وتدهشنا ليس كفرجة عابرة، بل كعالم يستجيب حقيقة لروحانية الانتظار والإحساس بأخوة إنسانية”.
أخلص طوال تجربته الصباغية لمدينته الحالمة دمنات التي يحمل اسمها، فقد سكنت قلبه ووجدانه، مستلهما عبر طقوسها وأحوالها الشعبية حركة حشود ساحة جامع الفنا ومشاهدها الفرجوية الأخاذة بأسلوب إقلالي فاتن يتأسس على ليونة الأشكال، وشاعرية الخطوط، وبلاغة النور الخاطف واللحظة الآنية.
حظي أمين دمناتي بموهبة خارقة همت جميع الميادين الإبداعية، وتحلى بعلاقات ثقافية وإنسانية نافذة، فقد جايل الناقد والمفكر المغربي منير الفاطمي الذي أشاد بعالمه بوصفه عالم ما وراء المظاهر ولحظات من الفكر إلى جانب الناقد الفني الفرنسي جون بوري الذي قال في حقه إنه” شاعر مراكش بشعريتها الساحرة”، هذه المدينة التي ظلت عالقة في ذاكرة الراحل، إذ رسمها في مقامات تشكيلية متنوعة وفق أسلوب غنائي أكثر عمقا وحركية بشكل يرقى إلى مستوى ماتيس ودوفي. في عام 1966، كتب الشاعر المغربي الراحل كمال الزبدي عن خصوصية مقتربه الجمالي: “عالم مشحون بالشعر، ينشد فيه اللون الكلمة ويترجمها إلى نصوص من الحياة بحس دقيق: مشاهد يومية، وجوه…أمين الدمناني شاعر بمعنى الكلمة، عرف كيف يقيس الخطوة على سلم الأمل، محتفلا بكل ما جوهري وأساسي”.
بمناسبة معرضه المقام عام 1969، كتبت الأديبة والباحثة زكية داوود مقالا موسوما بـ “ربيع الدمناتي”، أكدت فيه على السمات المميزة لعمله الإبداعي (الانسجام، والسرية، والخفة، والاستحضار) خارج كل نزعة درامية أو عنيفة، فالراحل الذي استوحى إبداعه من المغرب العميق مشهود له بخطابه الجمالي الهادئ والمسالم، مانحا متلقيه الفعليين والمفترضين شعورا بالجميل والجليل والنبيل.
شكل الكتاب الجمالي “أمين الدمناتي: 29 ربيعا وصيفا” لمؤلفه المؤرخ والرسام الباحث موريس أراما نموذجا مجدداً في مجال التأليف الفني، فقد تمكن بعينه الفاحصة والموضوعية أن يرصد مسار الفنان الراحل انطلاقا من توضيب سردي بالنص والصورة على منوال الأفلام التسجيلية المعمقة، مستهلا عالمه المونوغرافي بكلمة شقيق الراحل الحسن أمين الدمناتي (أمين أرشيف شقيقه والمحافظ على ذاكرته المرجعية)، وبنص مؤثر للأستاذ عبد الجليل الحجمري أمين السر الدائم لأكاديمية المملكة المغربية “أمين الدمناتي وعد جمالي التقطه يوم بلا لون “. حرص موريس أراما في هذا الكتاب الجمالي المائز أن يحيط بكل الجوانب الوجودية والإبداعية المتعلقة بمسار الفنان التشكيلي أمين الدمناتي، بناء على تأطير تأريخي محكم، ونظم أسلوبي يتراوح بين البعد النقدي الجمالي والملمح السردي الأدبي. ركز موريس أراما على انشغالات الفنان الإبداعية (موسيقى، مسرح، سينما، تصميم الموضة)، وإبداعاته الشعرية، ناشرا عدة أعمال فنية أصيلة وموحية خاصة اللوحة المتضمنة للمسات لونية بيضاء متتالية على خلفية حمراء منجزة عام 1971 كمعادل بصري لقدر وفاته المأساوي إثر أحداث الصخيرات الأليمة يوم 10 يوليوز 1971 (نشرت على غلاف المونوغرافيا). مازلنا نستحضر تكريم مساره الفني في إطار النسخة الأولي للصالون الوطني للفنون التشكيلية الذي أقامته الجمعية الوطنية للفنون التشكيلية برئاسة الفنان عبد اللطيف الزين بمدينة الدار البيضاء ما بين 19ماي و12 يونيو 2005 والذي تشرفنا معا بالمشاركة ضمن فعالياته.
< إعداد: عبد الله الشيخ ـ ابراهيم الحيسن