مطربات مغربيات مأسوف على غيابهن

 عبر مختلف المراحل التي قطعتها الأغنية المغربية المعاصرة، شكلت الأصوات النسائية إضافات نوعية. كل صوت من هذه الأصوات له أسلوبه الخاص وطابعه المتميز في الأداء الغنائي. 

 حققت المطربات المغربيات تراكما هاما في ما يخص الإنتاجات الغنائية التي قمن بأدائها، منها ما ينتمي إلى الاجتماعي ومنها ما ينتمي إلى الديني أو الوطني.. إلى غير ذلك من المواضيع التي تتطرق لها الأغنية المغربية.

  هناك بطبيعة الحال قائمة طويلة من المطربات المغربيات اللواتي أغنين الساحة الفنية المغربية بأصواتهن القوية وأحاسيسهن الرقيقة، ومن الصعب حصرهن في حيز ضيق، من هذه الأصوات من ظهر لفترة قصيرة ثم اختفى عن الوجود، لهذا السبب أو ذاك، وهناك عينة من هذه الأصوات الغنائية التي لا تزال تواصل عطاءها وإن بشكل أقل زخما من الفترات السابقة.

  في هذه الورقة، سأتوقف عند مجموعة من المطربات اللواتي انقطعن بمحض إرادتهن عن ممارسة الغناء، ليس كل الأسماء، ولكن عينة منهن، دون أن يعني ذلك أن من لم يتم ذكرهن، يعتبرن دون المستوى، مع العلم أن هناك مطربات من غيبهن الموت وهن في بداية عطائهن الفني، كما هو الحال بالنسبة للمطربة الراحلة ماجدة عبد الوهاب، فلو قدر لهذا الصوت أن يستمر في الغناء إلى يوم الناس هذا، لكان له شأن آخر، مع ذلك فإن الإنتاجات الغنائية التي خلفتها رغم قلتها، أهلتها لأن تتبوأ مكانة مرموقة في تاريخ الغناء المغربي، أستحضر بهذا الخصوص أغنيتها الشهيرة: “ويلي حتى فات الفوت” وهي من كلمات الشاعر الراحل علي الحداني وألحان الفنان عبد القادر وهبي، والتي يقول مطلعها:

“ويلي حتى فات الفوت

عاد سولني كيف بقيت

ليه الحمد نجيت من الموت

الصبر راه دواني وبريت

فين أنت فيق من أحلامك

طوي الصفحة كول نسيت

هانا واقفة قدامك

كأني عمري ما حبيت

أو هد بكايا البيوت”.

حين تستمع إليها وتشاهدها وهي تؤدي مقاطع هذه الأغنية، يبدو لك أنها تغني بكل جوارحها وأنها تكاد تذوب في ثنايا اللحن وسمو التعبير الشعري.

***

 من نفس الجيل تقريبا، غابت عن الساحة الغنائية فنانة رقيقة اسمها نعمة السحنوني، وهي فنانة رقيقة ومؤدبة، تتميز بأدائها النوسطالجي، وبالرغم من أنها كانت مقلة في الأداء الغنائي، فضلا عن أنها قررت الانسحاب من الساحة الفنية في وقت مبكر من مسارها الذي كان يعد بمزيد من الإنتاجات الغنائية الناجحة والخالدة؛ فإن ما خلفته من أغاني سمح لها بأن تحتل موقعا بارزا في تاريخ الأغنية المغربية المعاصرة، ولا شك أن العديد من متتبعي الأغنية المغربية، يتذكرون بكثير من الحنين أغنيتها التي تحمل عنوان: “أمي يا أسمى المعاني” والتي يمكن اعتبارها أيقونة الأغاني المغربية التي تغت بالأم، يقول مطلع هذه الأغنية التي كتب كلماتها الشاعر عبد اللطيف التاقي ولحنها الفنان عبد اللطيف السحنوني:

” أمي يا أسمى المعاني 

يا دنيا زاهية وجميلة

أنت بحر فياض بالحنان

وشاطئ مليء بالأماني

أنت عصفورة غردت على الأغصان 

بشذى وأعذب الألحان 

أمي يا لحنا مسح أسطر أحزاني 

وغيرت قصيدتي بكلام وحكاوي 

فدمت ملاذا ومنبعا للحب والعطف والحنان”

 يا لرقة وعذوبة الكلمات واللحن، خصوصا عند سماع الأغنية مؤداة بصوت فنانة تطفح بالمشاعر النبيلة، فنانة حباها الله بصوت ذي نبرة دافئة تلج أعماق الذات.

***

  خلال الأيام القليلة الماضية، طغى على الساحة الإعلامية وعلى صفحات التواصل الاجتماعي بالخصوص، خبر عودة المطربة عزيزة جلال إلى الساحة الغنائية، كان مصدر هذا الخبر، جزء من برنامج تلفزيوني حواري ظهرت فيه هذه المطربة المأسوف على غيابها وهي تؤدي مقطعا من أغانيها الأولى، تحت طلب منشطة البرنامج، لم يكن هناك إعلان عن استئناف النشاط الغنائي من طرف صاحبة “مستنياك”، لكن هواة الإشاعة ضخموا الحدث وأضفوا عليه المزيد من التشويق. يمكن اعتبار المطربة عزيزة جلال من أبرز الأصوات الغنائية التي تركت فراغا كبيرا في ساحة الغناء المغربي والعربي بصفة عامة، سيما وأنها قررت أو بالأصح أجبرتها الظروف الزوجية على التوقف عن الغناء، بعد أن خلفت مجموعة لا بأس بها من الأغاني الناجحة، سواء تلك التي أدتها من ألحان فنانين مغاربة أو مصريين أو بصفة عامة أجانب.

  ما يلفت الانتباه أنه بالرغم من مغادرتها للساحة الغنائية، في فترة مبكرة نسبيا من تاريخ الأغنية المغربية المعاصرة، فإن بعض أغانيها تكاد منذ ذلك الحين تبث بشكل يومي على أمواج الإذاعة، في وقت محدد من اليوم، هو الصباح المبكر، خاصة أغنية “والتقينا” التي كتب كلماتها الشاعر مصطفى عبد الرحمان ولحنها الفنان الراحل رياض السنباطي، يقول مطلعها:

  “والتقينا بعد ليل طال من عمر الزمان

نسيته طلعة الفجر وجافاه الحنان

لم عدنا؟

والتقينا بعد ما فات الأوان 

بعد أن لم يبق من أمس سوى كنـا وكان” 

 لقد صرنا نفتقر إلى هذا النوع من الأغاني الذي يطفح بالأحاسيس الرومانسية، والذي تقوم بأدائه أصوات مفعمة بالصدق والمشاعر الفياضة.

***

 هناك من المطربات اللواتي قلما يتم ذكرهن، كما أن وسائل الإعلام السمعية البصرية نادرا جدا ما تعمل على برمجة بعض إنتاجاتهن الغنائية، مع أن لهن رصيدا غنائيا لا يستهان بعدده وبقيمته، من هؤلاء المطربات، فاطمة مقدادي، فمنذ أن اختفت عن الساحة الفنية، صارت مهددة بالنسيان، إن لم نقل إنه بالفعل قد طواها النسيان، ومن المؤسف أن هذه المطربة الرقيقة قد أرغمتها الظروف القاسية على مغادرة الميدان الفني والتوقف عن ممارسة الغناء، سيما وأنها أبانت عن طاقة هائلة في الأداء والتعبير بطبقات صوتية قوية عن أحاسيس مؤثرة، من أغانيها الشهيرة ” السيد القاضي” وهي من كلمات الشاعر الغزير الإنتاج علي الحداني ولحن الفنان أحمد العلوي، أغنية السيد القاضي كتبت بأسلوب الشعر القصصي، وقد استطاعت المطربة فاطمة مقدادي أن تقوم بتشخيص أطوار الحدث القصصي اعتمادا على الصوت فقط، دون الاستعانة بأكسسوارات معينة.

***

 هل كانت المطربة فاطمة أمين تخطط لغيابها عن الساحة الفنية إلى الأبد؟ لا نعلم ذلك؟ لكن من آخر الأغاني التي أدتها تحضر فيها تيمة الغياب بشكل أساسي. لم يكن غياب فاطمة أمين ناتجا عن كونها كانت تجرب  الغناء وأنها صرفت نظرها عنه بعد أن اكتشفت أن لديها اهتمامات أخرى أهم، هذا اعتقاد غير صائب ولا حاجة للتأكيد على أن فاطمة أمين مطربة حقيقية ذات موهبة في الأداء الغنائي ولعل بروزها في فترة هيمنة الأصوات الرائدة في الساحة الفنية المغربية وقدرتها على إثبات مكانتها وتفردها، يكفي للقول إن تعاطيها للغناء لم يكن مجرد نزوة عابرة، وبالتالي فإن غيابها عن الساحة الغنائية طيلة ثلاثة عقود أو أكثر، يعد خسارة للأغنية المغربية، على اعتبار أنها كانت تعد بعطاءات قوية وفريدة في هذا المجال الفني الذي يشهد خلال السنوات الأخيرة مرحلة تقهقر على مختلف المستويات نتيجة التسيب الذي أدى إليه التواصل الرقمي.

***

  لا يمكن أن نأتي على ذكر المطربات اللواتي غادرن الساحة الغنائية بشكل مبكر، ونغفل الإشارة إلى مطربتين أخريين، هما: بهيجة إدريس وسمية قيصر.

الأولى تعد من رواد الغناء النسائي المغربي، وقد ناضلت في تلك الفترة التي كان يحرم على المرأة أن تمارس الفن، غير أن وجودها في وسط عائلي متفتح، سمح لها بأن تبرز موهبتها الغنائية إلى الوجود، في حضور ملحنين عرفوا كيف يبدعون ألحانا تتوافق مع طاقتها الصوتية.

كما أن المطربة سمية قيصر استطاعت في فترة وجيزة أن تفرض وجودها وتستقطب إليها ملحنين ذوي صيت كبير من داخل الوطن وخارجه، بعد أن فازت في مسابقة غنائية على الصعيد الوطني، في زمن كان يحسب حساب للإنتاج الغنائي.

***

غابت هؤلاء المطربات وغيرهن، لكن أغانيهن ظلت وستظل حاضرة في الوجدان، بالنظر إلى أنها طافحة بالصدق، وبالنظر أساسا لكونها أنتجت في ظروف سليمة، تتم فيها مراعاة شروط الإبداع الغنائي، سواء من حيث الكتابة الشعرية أو اللحن أو الأداء أو العزف أو غير ذلك من عناصر صناعة الأغنية. 

> بقلم: عبد العالي بركات

Related posts

Top