رواية “صحراء جانوس، بين المابين” دفق إبداعي آخر للكاتب والشاعر محمد صولة، وهي الجزء الثاني من مشروعه الروائي. تحكي قصة مثقفين منفيين عرب، وتيههما بين الهم في التغيير ومعانقة دفء الوطن، وبين واقع التردي والنكوص وإكراهات المنفى.
لذلك ارتأيت أن أقارب هذا النص السردي، من زاوية موضوعاتية، أتناول فيها موضوعة المثقف العربي من خلال المسار الحكائي للشخصيتين المحوريتين: منصور الألوسي الملقب بجانوس، وهو مثقف عراقي حاصل على شهادة جامعية بفرنسا، تخصص علوم سياسية، والثاني مثقف مغربي يساري، سجين سياسي سابق، مسمى قطيم الماتادوري، والملقب بموماد السباعي. التقيا في بلاد المهجر والمنفى القسري، فنشأت بينهما صداقة ترسخت بفعل عوامل عديدة مشتركة.
تحتل تيمة المثقف في هندسة النص المدروس، موقعا استراتيجيا تتفرع عنه تيمات أخرى، وإذا كان المنهج الموضوعاتي “مأخوذ بالمعافي العميقة وباشتغلال الدلالة”[1]، كما أسس لذلك رائده ج. ب. ريشار سواء في اشتغاله على نصوص شعرية أو روائية مثلا في كتابه “الأدب والإحساس” حيث “فحص المشاعر العاطفية، الحياء والحزن والفرح عند ستاندال، ثم الرغبة والنشوة … عند فلوبير”[2]. فإننا سنقتصر على تحليل الدلالات التي يوحي بها النص دون اللجوء إلى التقنيات الفنية في الكتابة.
يقول محمود أمين العالم:
المثقف إزاء السلطة يحتل ثلاثة مواقع: “إما ناقدا أو مبررا أو متفرجا”[3]، والمثقف في صحراء جانوس، اختار لنفسه أن يكون مثقفا معارضا للنظام، ويحمل فكرا نقيضا للسائد.
منصور الألوسي ابن بغداد الرشيد تبخرت أحلامه في إفادة بلده وشعبه بتكوينه وعلمه، فعاد إلى بلاد الغربة ليكون لاجئا سياسيا. أما قطيم الماتادوري، فهو ابن مدينة مقصية من دائرة الاهتمام الرسمي، ولم تعرف التنمية بعد طريقها إليها، رغم الثروات الطبيعية الهائلة التي تتسم بها، إنها مدينة سيدي سليمان المغربية.
انتهى كمجموعة من الشباب المغربي من جيله، في الستينات والسبعينات إلى اليسار المناضل، ولأن المرحلة كانت دامية وحامية، كان من الطبيعي أن يناله نصيب منها، حيث اعتقل ثم سجن، وبعد الإفراج عنه، لم يجد إلا المنفى مأوى له. وهناك في بلاد المهجر تعرف على منصور الألوسي وزوجته هدية وباقي الرفاق. “كان منصور الألوسي، رغم تخصصه في العلوم السياسية، متعددا وموسوعيا. يحاضر في الأدب والفكر، في المسرح والسينما والتاريخ … كان خبيرا بالشرق الأوسط”، لكن ماذا بعد هذه الترسانة النظرية؟ ماذا بعد المنفى ورطوبة الزنازن؟ ماذا عن أفكاره حول الأدب الكولوينالي، والمقموع في الثقافة العربية؟ ماذا بعد الندوات، والمحاضرات حول القضايا الثقافية والاقتصادية والسياسية التي تهم الشعوب العربية؟
لاشيء، حتى الموت لم يرحمه، واختار له طريقة مقززة في الرحيل الأبدي لا تليق بحجمه كمثقف حامل لهموم بلده، لقد مات على الرصيف، على الهامش مخمورا، وتهشمت جمجمته تحت عجلات الشاحنة “واختلط دمه بإسفلت الشارع، كما سرقت الأفعى النبات السحري لجلجامش، وأخرجت الإنسانية من الخلد”[4].
هي نهاية مأساوية وميتة غريبة في بلاد الغربة، رحل منصور جانوس الأب، وترك العراق جريحا غارقا في الدم والحرب والخراب. لكنه خلف جانوس الابن، الأمل المرتقب، الذي قال عنه موماد السياعي يوما: “إذا كبر جانوس سيعيد إلى أرضه كل مجدها، سيحاسب الذين كانوا السبب في كل ما حصل، من يوقظ العراق الآن غير أبنائها الحقيقيين الشرعيين؟ “[5]
أما فيما يخص موماد السباعي المثقف المغربي، فقرر هو الآخر أن يعود إلى بلده، بعدما سمع عن أبناء العهد الجديد، وشعاراته حول طي صفحة الماضي، والإنصاف والمصالحة، ثم عدم تكرار ما جرى، إلى غير ذلك من الشعارات المغرية والمبشرة بمغرب آخر مشرق ونموذجي، مما جعل موماد السباعي يعيد النظر في أشياء كثيرة كطريقة الممارسة السياسية، ورسم استراتيجية بديلة على ضوء المعطيات الجديدة، يقول موماد وهو مشتاق للعودة: “لقد مضى زمن المعارضة أيام زمان، وليس المعارضة من أجل المعارضة، الآن المناضل الحقيقي هو المشارك في أسئلة المرحلة من الداخل وليس من الخارج، البناء يتم دائما من قلب البيت … لابد إذن من العودة والعمل مع الرفاق .. لقد اختفت أسماء ساهمت في صنع مرحلة سوداء….”[6]
حزم إذن موماد السباعي حقائبه، وكله أمل في المشاركة في بناء مغرب جديد، تتحقق فيه الكرامة للجميع، وقررت هدية أرملة منصور أن تصاحبه إلى المغرب، حاملة طفلها جانوس، وتاركة قبر زوجها وحيدا يعانق الضباب.
يتذكر موماد السباعي وقفته في مطار النواصر بالدار البيضاء، إثر إطلالته الأولى على أرض الوطن، بعد غياب طويل قائلا: “.. راقبت العالم الذي أدخله.. منذ السبعينات لم أر ترابه، يتحدثون فيه عن كل شيء، عن التحول عن الحداثة والديمقراطية والحرية، لذلك جئت وأريد أن أعيش هذا التغيير”[7].
لكن ماذا عن حماسته هذه بعد أن استنشق هواء الوطن، ولامس الواقع الحقيقي عن قرب؟ وماذا عن شوقه في معانقة المدينة التي احتضنته في الطفولة والشباب؟ وماذا عن ارتساماته وهو يرى شوارعها بعد الثلاثين سنة من الغياب؟
قال بمرارة وهو يتوجه بخطابه إلى هدية، التي رأت فيه تعويضا عن زوجها الذي ضاع وهلك، ورأت في بلده المغرب المأوى والملجأ، “تكلمي الآن يا هدية، أنا موماد السباعي، ها أنت قد وصلت إلى مكاني الذي أحبه، مكاني الذي أكرهه، لا تسأليني لماذا أنا هكذا؟ .. انظري إلى المدينة التي لم أتحدث عنها إلا في السر، كلهم أخذوا منها أكثر مما أعطوها، مسكينة، وديعة، هادئة.. ثلاثون سنة مضت ولا شيء يغير، عقارات، محلبات، قيساريات كالفطر، هل هذا هو التحول؟”[8]
هي خيبة الأمل إذن المضخمة بالحزن وتبخر الأحلام، سنوات مضت في مقارعة الزمن العصيب، والآلة المخزنية التي لا ترحم.. ولم يحصد إلا الرماد.
لم يجد موماد السباعي إلا ترديد مقولات لمفكرين مرموقين، كعزاء يضمد بها الجراح، لقد جاء على لسان السارد “قال محمد عابد الجابري: إننا ننتظر شيئا ما، إننا نعيش في وهم، وكأننا في قاعة انتظار…”[9]
كان من المفروض أن تكون عودته مفعمة بالحيوية والنشاط: لقاءات، ندوات، محاضرات، نقاشات فكرية وسياسية، أعمال ميدانية.. لكن لا شيء من هذا حصل، فكل تحركاته كانت جولات في شوارع القنيطرة وسيدي سليمان والرباط، واسترجاع لذكريات مضت، ووصف لبعض المقاهي، وبعض الأكلات الشعبية.. وكأن الزمن حلقة مفرغة من اللاجدوى، وتجرع المرارة، والعيش على الماضي هي حالة من التيه والضياع، عاشاها المثقفان موماد السباعي ومنصور الألوسي، وهي أيضا لحظات الذهول وعدم استيعاب ما يجري: سقطت بغداد سهلة بشكل مذو، ولم يقبض موماد إلا الريح، حتى جانوس الابن الذي كان من المفروض أن يلمح إلى أفق بديل، تبخر هو الآخر “لقد ضاقت به الدنيا هنا … أمسك ورقة وكتب عليها، سأعود إلى أبي، وانبرى يبكي كطفل صغير … ولم تمر إلا أيام بصعوبة حتى كان قد رحل دون أي يخبر أحدا بذلك…”[10] ، وكأنه قدم إلى المغرب بشكل إيحائي ورمزي فقط، ليخبرنا وينبهنا، أنه إذا كان في روما القديمة، وفي بوابة معبدها تمثال جانوس له وجهان، تظل أبوابه مفتوحة أيام الحرب، وتغلق أوقات السلم، فإن صحراء الشرق العربي بوابتها في المغرب الأقصى مشتركة، مما يجعل هذا النص السردي حسب تقديري يعالج القضايا العربية الكبرى في إطار قومي.
لقد طرح الكاتب الزمن العربي في هذا النص، كأنه عودة دائما إلى الصفر، حيث ابتدأ الحكاية بمقطع سردي، وانتهت به: “عشرون يوما وليلة … لا أقل ولا أكثر، حدث ذلك بالتمام والكمال، ولم يعد هناك أمل في استمرار المواجهة، لقد وقع كل شيء في لحظة.. تحوم أسئلة رجراجة ومشوشة، وتعود الحكاية إلى أصلها وماذا بعد؟..”[11]
هو إذن التاريخ العربي منذ محمد علي، على الأقل إلى اليوم، وهو في مساره الدائري يرسم حلقات من التيه لمثقفيه وقادته، ليجني ما أسماه عبد الإله بلقزيز “الحصاد المر للمثقفين العرب” وليعلن نهاية الداعية كصورة نمطية للمثقف العربي بشتى مرجعياته التي انخرطت في رسم مشروع نهضوي. ثلاثة أوهام وأساطير حددها الكاتب السالف الذكر في كتابه “نهاية الداعية، الممكن والممتع في أدوار المثقفين” والتي تحتاج حسب تعبيره إلى “وقفة نقدية في معرض المراجعة المطلوبة: وهي أسطورة الدور الإرشادي، وأسطورة الدور الرسولي، ثم أسطورة الدور العلمي المحايد”.[12]
**
إحالات وهوامش:
[1] – علوش سعيد “النقد الموضوعاتي” شركة بابل للطباعة والنشر والتوزيع الرباط 1989 ص 12.
[2] – نفسه ونفس الصفحة.
[3] – العالم محموع أمين، مجلة النهج، ع 17 سنة 1988 ص 111.
[4] – نفس المصدر ص65.
[5] – رواية “صحراء جانوس، بين المابين” مصدر مذكور ص130.
[6] – رواية “صحراء جانوس، بين المابين” مصدر مذكور ص87.
[7] – رواية “صحراء جانوس، بين المابين” مصدر مذكور ص95.
[8] – رواية “صحراء جانوس، بين المابين” مصدر مذكور ص105.
[9] – رواية “صحراء جانوس، بين المابين” مصدر مذكور ص193.
[10] – رواية “صحراء جانوس، بين المابي” مرجع مذكور ص 206-207.
[11] – رواية “صحراء جانوس، بين المابين” مرجع مذكور ص 222.
[12] – بلقزيز عبد الإله: نهاية الداعية، الممكن والممتع في أدوار المثقفين” الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ط 3 المركز الثقافي العربي بيروت 2010 ص92.
> بقلم: خالد زروال