واكب الإبداع الأدبي في مختلف مراحله الزمنية، المحطات الكبرى التي تمر بها البشرية، ومن بين هذه المحطات بطبيعة الحال، الوباء أو الجائحة، وما ينتج عنها من جوانب سلبية وإيجابية كذلك. في هذه النصوص نجد الذات والمجتمع في صراع مع عدو غير مرئي، وتلك هي سر قوته وطغيانه. من خلال حلقات هذه السلسلة إذن، نقف على عينة من النصوص الإبداعية المغربية والعالمية ومدى تفاعلها مع الوباء، حاضرا وماضيا على حد سواء.
< إعداد: عبد العالي بركات
الحلقة السابعة
كورونا غيرت حياتي
< بقلم: سارة عدنان
كان يوما صاخبا مملا للحد الذي يجعلني أفكر برمي
قامتي وأنا أقف على عتبة الرصيف أمام موقف الباصات، إلى الشارع فيُسحق جسدي تحت إحدى دواليب السيارات السخينة من شدة السرعة، فبعد نهار شاق من العمل بمركز كوافير نسائي
عُدت إلى المنزل ورأسي يكاد ينفجر من طلبات الزبونات المملات.
فبنهاية الأمر أنا مُجبرة على إرضائهن وتصفيف شعرهن بالشكل المطلوب ومجاملتهن طوال الوقت، كُنت أنتظر انتهاء يومي بفارغ الصبر لأخذ قسط من الراحة، ولكن حالما أصل إلى عتبة باب المنزل أنسى تعبي وأشعر ببؤس شديد يجعلني أتمنى لو أنني قضيت ليلتي بمركز الكوافير، فمنظر طفلتي المُقعدة يجعلني بحالة يأس أبدية، أما والدها الذي بُت أكرهه كرهاً لا حدود له كونه المسؤول الأول عن وضع ابنتي الصحي وعن الوضع الذي أنا عليه من جُهدٌ وتعب، جلست أنذب حظي على عتبة باب المنزل أترقب ضوضاء العالم وحركتهم غير المبررة! على ماذا يتراكضون هكذا ويبذلون جهودا واعمالا طويلة فقط لإرضاء مِعداتهم! حيث أنني بكل مرة أقتني راتبي الشهري من مديرة عملي مع زميلاتي أرى بهجتهن بتلك النقود وطموحاتهن بشراء الكثير الكثير من المواد حتى أن بعضهن يذهبن فورا للمتجر المقابل للمركز الذي نعمل به ولا يخرجن من المتجر إلا وأصابعهن تشتكي من حمل الأكياس المثقلة بمشتريات عدة، وهذا حال الجميع على ما اعتقد، فالكُل هنا يجهد نفسه ليرضي نفسه! أي حياة هذه.
حملت نفسي وتوجهت نحو الباب لأضع المفتاح بقفله وأديره بهدوء، عليّ أتمكن من الدخول دون أن ألفت انتباه زوجي، فبهذه الأيام تحديدا باتت رؤية وجهه تستفزني لدرجة غريبة ، تسللت إلى غرفتي المنفردة عنه ووضعت رأسي فوق وسادتي وبدأت دموعي تنهمر بغزارة، وأنا استمع لصوت طفلتي وهي ترحب بي عن بعد من سريرها الصغير، وتبع صوتها صوت والدها وهو يسألني ما أن تناولت شيئا من الطعام أم لا، إذ كان يحضر لنفسه ولابنته الطعام ككل يوم، وهو على يقين تام بأنني أكرهه كونه المسؤول الوحيد عن وضع ابنتنا، فحين لم يستطع أن يدبر لها مبلغ العملية منذ سنتين، بقيت أبنتي عاجزة عن السير حتى بعد أن أتمت الرابعة من عمرها، مضيت بنوم عميق حتى استيقظت صباح اليوم الثاني بتعب شديد لم أعهده من قبل ! فلطالما اعتدت على إرهاق العمل ولكن ليس لهذه الدرجة ! نهضت عن فراشي بصعوبة وتوجهت لاحتساء كوب من القهوة كعادتي كل صباح، ورغم الألم الذي أنا عليه جاهدت نفسي على الخروج فبقائي بالبيت ورؤية وجه زوجي قد يزيد عليّ الأمر سوءا ، ولكن قبل أن أتحرك نحو الغرفة لتغيير ملابسي رن هاتفي النقال ، ترقبت شاشته واذا بمديرة العمل تتصل ! ورغم استغرابي من مهاتفتها لي على غير عادتها إلا إنني أجبت على مكالمتها لتخبرني بأن وزارة الصحة أمرتها بإغلاق المركز الى أشعار آخر كما حدث مع المراكز التجميلية الأخرى والأماكن العامة تفاديا لانتشار وباء كورونا نتيجة الاختلاط العام.
هو مرضٌ تنفسي إنتاني حيواني المنشأ، وهو قريبٌ جدًا من فيروس سارس. اكتُشف الفيروس المستجد لأول مرة في مدينة ووهان الصينية عام 2019، وانتشر حول العالم منذ ذلك الوقت مسببًا جائحة فيروس كورونا 2019-2020 العالمية ، لم يكُن الآمر يُعنيني كثيرا رغم البلبلة التي أحدثها هذا الفيروس بين الناس وبث الرعب بقلوبهم وأفكارهم ،حيث انشغلت القنوات الأخبارية بالتحذير الشديد من الاختلاط بأماكن عامة وتنبه على ضرورة استخدام القفازات الطبية والكمامات وتجنب التواصل الجسدي وأن غسل اليدين من أهم الأشياء للوقاية من فيروس كورونا، فمن الضروري غسل الأظافر والجلد بين أصابعك فهي أماكن لاختباء جميع أنواع البكتيريا كما يمكن أن تدخل الفيروسات جسمك من خلال عينيك وأنفك وفمك وفتحات أخرى، لذلك حذرت أيضا من لمس الوجه.
بدأ الضجر يسيطر علي تماما خصوصا بعد أن استيقظ زوجي وابنتي! أهذا منظر يستحق أن أعيش معه طوال حياتي! هربت إلى غرفتي فورا وأوصدت الباب بقوة، بعد نصف ساعة تقريبا كان زوجي يطرق الباب بشدة ويطلب مني أن أخرج لتناول الفطور معا! فتحت الباب بغضب صارخة بوجهه أن يتركني وشأني، فأنا لا أريد منه شيئا! لأنه فاشل بالفعل.
بدأ يهدئني ويقول أن العالم الخارجي بمأساة كبيرة، وحالنا أفضل مما هم عليه بالخارج! الحياة مهددة بالانقراض. الوباء ينتشر بسرعة رهيبة وإعداد المصابين يتزايد كل دقيقة! ولكنه تفاجأ بردي حين قلت له: ليت ذلك الوباء يصيبني لأتخلص من رؤيتك ورؤية هذا العالم البشع! وهنا بدأت اشعر بالدوار الشديد وفقدت السيطرة حتى أنني كُدت أن اسقط أرضا إلا أن زوجي سارع بإسنادي، وبعد أن أسندني على كتفه استغرب من حرارتي! إذ كانت مرتفعة لدرجة غير معقولة! أرتاع من الوضع الذي أنا عليه وبدأ يتراكض باتجاهات مختلفة لا يعرف كيف يتصرف! نقلني بعدها فورا إلى المستشفى ليقرروا هناك بأنني مصابة بفيروس كورونا ويجب عزلي فورا ومعالجتي على انفراد! بعد أن سمع زوجي بهذا نظر الي نظرة جعلت قلبي يقفز من مكانه، حيث كانت نظراته ناطقة وكأنها تقول بأن نهايتي محسومة.
فصلوني عنه فورا وبدأت ابتعد وأنا أراقبه بنظراتي دون ان انطق بشيء ، غير أنني لم أر منه سوى دموعه.
لا أدري ما الذي حدث فجأة! لقد تلاشت قدرة إدراكي وبت أشعر أنني بحُلم! لا بل أنني حقا بكابوس! لوهلة بدأ الجميع ينفر مني ويخشى الاقتراب وكأنني شيء مُنكر مقزز! كان منظر الأطباء مخيفا للغاية فلا شيء يظهر منهم سوى ردائهم الأبيض العازل للفايروس، كانوا يوجهوني للذهاب إلى غرفة العزل وتلقي العلاج، بعد أن استدعوا زوجي وطفلتي للخضوع للفحص وعزلة مدتها سبعة أيام حتى يتم التأكد من سلامتهم.
مكثت 15 يوما في المستشفى ولم أشعر بأية أعراض تذكر كتلك التي نسمع عنها، أحسست فقط بارتفاع طفيف في درجة حرارتي وكان الأطباء كل مرة يعالجونها بالأدوية المعدة للغرض إلى أن اختفت تماما،
طوال فترة العزل كُنت انتظر مكالمة هاتفية من زميلاتي بالعمل أو أمي وشقيقاتي الثلاث اللاتي لطالما كُنت أفضلهن على بيتي وعائلتي، ولكن ما حدث أنه لم يتصل بي أحد سوى زوجي! كنا على تواصل دائما عبر الهاتف نتحدث لساعات طويلة حتى بُت أشعر أنني تعرفت على شخص جديد وليس من كان يمكث معي بنفس المنزل! بدأت أشعر بالأسف الشديد على ما بدر مني مسبقا تجاهه، فرغم أنه فعل ما بوسعه لتشافي ابنتي إلا أنني لم أكن اقدر جهوده تلك أبدا وأشعرته دوما بالفشل، حتى أنني كُنت لا أنظر إليه إلا باشمئزاز، تبدلت مشاعري نحوه تماما وبت أشعر نحوه بالحب كما كُنت أول مرة قبل أن يصبح زوجي! حتى أن صحتي بدأت تتحسن الأمر الذي جعل الأطباء يعيدون تحليل دمي للتأكد من شفائي التام من الفيروس، والحمد لله كانت النتيجة سلبية هذه المرة وسمحوا لي بمغادرة المشفى نهائيا وممارسة حياتي الطبيعية. لا يمكن أن أقلل من خطورة الفيروس فالكل معرض للعدوى والمرض ما لم يلتزم بتعليمات الوقاية المعروفة وخاصة الابتعاد عن الناس والالتزام بالحجر الصحي الذاتي للحد من انتشار هذه الآفة، بعد أن عبرت باب المستشفى كان زوجي ينتظرني هناك برفقة ابنتا، نظرت إلى هدوء العالم وخلو الشوارع من الناس، تذكرت كم مرة كُنت أندب بها تحشدهم
وهوسهم بالعيش! فبعد أن تخلل الاوكسجين رئتي من جديد أدركت قيمة النعم التي كان يتفضل الله بها علينا، ولكننا لم نكن نشعر بها أبدا بل نعدها عداد أي شيء روتيني ممل، عُدت إلى المنزل بشغف كُنت أغتنم كُل فرصة لأرى وجه ابنتي وزوجي، مارست كُل ملذات الحياة معهم، كما بدأت أسترجع هوسي المسبق بالرسم ورسم لوحتي التي لطالما كُنت أحلم بها ونجحت بها بالفعل، فقد قام زوجي بإرسال نسخة منها إلى فنان فرنسي معروف عبر الانترنت، وقد أشاد بها كثيرا ونالت استحسانه، وكُنت أكتشف كُل يوم سببا يجعلني أتمسك بخيوط الأمل، حتى أنني خصصت ساعات أقوم بها بممارسة رياضة المشي مع ابنتي، ورغم إدراكي بعجزها، إلا أنها تحتاج لذلك بمساعدتي أنا ووالدها لأجل ألا يحدث ضمور بعضلات جسدها الصغير، ولكن أي معجزة تلك! فقبل أن ننهي معها شهرا بدأت تقف على ساقيها! اتصلنا فورا بطبيبها الخاص وشجعنا على الاستمرار بمشيها حتى بدأت تسير بالفعل وكأنها لم تكن يوما مقعدة.
ألم يكن لذلك الفيروس سببا بأن نعيش نحن كثلاثة أفراد ببيت صغير! لقد كان رحمة من رحمات ربي واستراحة من العالم لنكتشف أنفسنا وقدراتنا، كُلنا نستطيع لو جربنا الانفراد بذاتنا بقوة وعقل، لم يكن حجر صحي ولم تكن نهاية الأرض! كان بداية بشكل آخر، اغتنموا فرصكم بهذا الاستراحة القصيرة وسارعوا بإنجازاتكم، فغدا تشرق الشمس من جديد ونخرج تحت السماء فخورين بإنجازاتنا.. لم تكن النهاية أبدا! إنها البداية. كورونا جعلتني أعيش.