نفحات رمضانية في رحاب الشعر الملحون -الحلقة 14-

فن الملحون من أنواع الطرب التي ابتكرها المغاربة بعد أن تأثروا بالموسيقى الأندلسية خلال القرن السابع الهجري في العهد الموحدي للمغرب، فوظفوا النغمات والإيقاعات للتغني بقصائد الشعر والنثر سواء باللغة العربية الفصحى أو باللهجة الدارجة.
وبدأ الملحون بالمدح النبوي ومناجاة الله ثم الرثاء، وكان له دور كبير في المقاومة ضد الاحتلال الإسباني والفرنسي والبرتغالي، وانتشر الملحون بين الناس كفن شعري وإنشادي وغنائي، موطنه الأول كان مدينتي سجلماسة وتافيلالت الأمازيغية– جنوب المغرب- ثم انتشر ليصبح فنا شعبيا تتغنى به الفرق في مختلف مدن المغرب. وتشتمل قصيدة الملحون على كلام ينتظم، لكن في غير ضبط محكم لوحدة الوزن فيه والقافية، وتنقسم قصيدة الملحون إلى خمسة أركان، هي المقدمة، أو السرابة وهي قطعة قصيرة تؤدى على غير ما تؤدى به القصيدة، ثم الدخول، وهو شطر في استهلال القسم بدون عجز، والقسم الثالث هو الحربة، وهي اللازمة، ويؤديها الشداشة وهم جماعة المغنين والعازفين، والقسم الرابع هو الأقسام، وهي الأبيات المغناة، أما القسم الخامس فهو الدريدكة، وتختم القصيدة وتنشد على إيقاع سريع.
وارتبط الملحون كفن مغربي أصيل بشهر رمضان، وذلك منذ ثمانية قرون تقريبا، حيث تتاح خلال الشهر فرص زمنية للاستماع والاستمتاع بهذا الفن الذي يتميز بالتزامه بقواعد اللغة العربية الصحيحة في الغناء، واختيار القصائد العظيمة لعمالقة الشعر الصوفي لغنائها، وحتى اللهجة المغربية لا يتم غناء أي كلمات لا تلتزم بآداب وضوابط هذا الفن الأصيل. ولا غرابة في ذلك، فالملحون رسالة فنية وليس مجرد غناء للتسلية، ونجد فيه تمسكا بالآلات الوترية والايقاعية الأصيلة والتي تضيف للكلمات العربية الفصحى نوعا من السحر الذي يصيب قلوب المستمعين قبل آذانهم.


في رمضان، زاد تعلق شعراء الملحون بالذكر، حيث دوت حناجرهم باسم الله، وكانت قلوبهم حاضرة لم تغب عن الذكر، واعية به خاصة في هذا الشهر الكريم، شهر الفوز بجنة النعيم، وذلك من خلال ثنائهم الجميل على الله، واعترافهم بأن الفضل منه .. وهذا الثناء بليغ جدا، وفيه معنى عميق، يجدر بنا أن نتذوقه بغية إدراك مدلوله. فهذ الذكر يزيد شاعر الملحون صلة بربه، ويعمر وجدانه، شعورا منه بعظمة الخالق وجلاله، فمن يذكر الله تعالى ويعبده، ينال خيرا كثيرا . يقول الشاعر الأكحل:

        إذا اعبدت ربي اتنال خير اكثير         اتسلم القدرة الله أو لا ترى قهرا ..
لذلك، على الصائم أن يطلب دائما الفضل ويرجوه من الله تعالى صاحب القدرة ومفني الأعمار . يقول الحاج الصديق:

          سبحان العالم بالسرار        مول القدرا أمفني الاعمار     والمولى مقيل الاعثار
                                          دايم فضلــــه نرجـــــاه

وقد صدق الإمام الغزالي حين قال : ” اعلم أن الناظرين بنور البصيرة، علموا أنه لا نجاة إلا في لقاء الله تعالى، وأنه لا سبيل إلى اللقاء إلا بأن يموت العبد محبا لله تعالى وعارفا بالله سبحانه، وأن المحبة والأنس لا تحصل إلا من دوام ذكر المحبوب والمواظبة عليه .. ولن يتيسر دوام الذكر والفكر إلا بوداع الدنيا وشهواتها والاجتزاء منها بقدر البلغة والضرورة، وكل ذلك لا يتم إلا باستغراق أوقات الليل والنهار في وظائف الأذكار والأفكار .. فقد قال تعالى لأقرب عباده إليه وأرفعهم درجة لديه: ” إن لك في النهار سبحا طويلا، واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا ” .
    ويقول سيدي عبد القادر العلمي في قصيدة ” الفرج ”
           لا رب غيـــرك اقريب أمجيب          فــــــي كــل حـــين يصــــــــــاب
           أنت الجليل وانت الحي المعبود          رب غني راحم ودود واسع الجود
   فمثل هذه الأذكار في الشعر الملحون، تكاد تعطي دلائل قاطعة على تشبع شاعر الملحون بذكر الله سواء في رمضان أو في غيره. والمتتبع لقصائد الملحون، يجد عدة نماذج من هذا القبيل، تضفي على ناظميها مسحة روحية، تكاد ترقى بهم إلى فضاءات ربانية طاهرة .
وشعراء الملحون حين خصصوا قسما كبيرا من قصائدهم في هذا الاتجاه، كانوا يستجيبون لرغبة دفينة في النفس، تشحذ وجدانهم، وتوقظ فيهم الإحساس بعظمة الخالق سبحانه، من له الملك والأمر . يقول الشاعر محمد بوزيد:

              اعلــم بين لبقا لمن يحيي العظـــام            من ليه الملك حق دايم بدوام
              اسميع ابصير اكريم في يده لحكام            يقبض ولا يبسط للخلق انعام
فهذه الأبيات وغيرها، تثير فينا إحساسا بصدق عاطفة قائلها، إذ نجد فيها نفسا روحيا واضحا إذا ما حاولنا تتبع ما فيها من أحاديث تمجد مجالس الذكر وتزكيها، على اعتبار أن الذكر علامة من علامات حب الله ورسوله. ومن ثمة، وجدنا في قصائد شعراء الملحون روحانية تنبعث في هدوء وسكينة، يناجون خالقهم بكل تأمل وخشوع ويقين. فإياه وحده يعبدون، وله وحده يركعون ويسجدون، إذ لا سلطان على مشاعرهم لغيره، ولا تقديس في قلوبهم لسواه. يقول سيدي عبد القادر العلمي:
               نحمد رب السما ونسجد للقبلا              وانقول اليوم عاد صادفت لقبول
فكل من توافرت فيه مثل هذه المواصفات، استطاع أن يطلب الوصال، وأن يجوب آفاق الروح مهتديا بالنور الإلهي . فالذكر أداة للوصول إلى الغاية التي ينشدها الشاعر، وتتمثل في تحقيق الصفاء والكمال، بعد أن تمكن من الامتناع عن الانقياد لشهوات نفسه، وزهد في الدنيا وأحجم عن مغرياتها. وبهذا، يكون الذكر أمر مشترك بين العبد وربه كما نص على ذلك قول الله تعالى: ” فاذكروني أذكركم ” وكذا ما نص عليه الأثر الذي يرويه رسول الهدى عن الله تعالى، وهو قوله عز وجل: ” أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني . إن ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ، ذكرته في ملأ خير منه، وإن تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة “.
ومثل هذا الحديث القدسي، يكشف ـ لا محالة ـ عن عمق الصلة بين العبد وربه الرحيم الودود السميع الدعاء، القريب من عباده المومنين .

يكتبها لـ ” بيان اليوم “الدكتور منير البصكري الفيلالي

*نائب عميد الكلية متعددة التخصصات بأسفي سابقا

Related posts

Top