نفحات رمضانية في رحاب الشعر الملحون

 يكتبها لبيان اليوم الدكتور منير البصكري الفيلالي نائب عميد الكلية متعددة التخصصات بأسفي سابقا

فن الملحون من أنواع الطرب التي ابتكرها المغاربة بعد أن تأثروا بالموسيقى الأندلسية خلال القرن السابع الهجري في العهد الموحدي للمغرب، فوظفوا النغمات والإيقاعات للتغني بقصائد الشعر والنثر سواء باللغة العربية الفصحى أو باللهجة الدارجة.

وبدأ الملحون بالمدح النبوي ومناجاة الله ثم الرثاء، وكان له دور كبير في المقاومة ضد الاحتلال الإسباني والفرنسي والبرتغالي، وانتشر الملحون بين الناس كفن شعري وإنشادي وغنائي، موطنه الأول كان مدينتي سجلماسة وتافيلالت الأمازيغية– جنوب المغرب- ثم انتشر ليصبح فنا شعبيا تتغنى به الفرق في مختلف مدن المغرب.
وتشتمل قصيدة الملحون على كلام ينتظم، لكن في غير ضبط محكم لوحدة الوزن فيه والقافية، وتنقسم قصيدة الملحون إلى خمسة أركان، هي المقدمة، أو السرابة وهي قطعة قصيرة تؤدى على غير ما تؤدى به القصيدة، ثم الدخول، وهو شطر في استهلال القسم بدون عجز، والقسم الثالث هو الحربة، وهي اللازمة، ويؤديها الشداشة وهم جماعة المغنين والعازفين، والقسم الرابع هو الأقسام، وهي الأبيات المغناة، أما القسم الخامس فهو الدريدكة، وتختم القصيدة وتنشد على إيقاع سريع.
وارتبط الملحون كفن مغربي أصيل بشهر رمضان، وذلك منذ ثمانية قرون تقريبا، حيث تتاح خلال الشهر فرص زمنية للاستماع والاستمتاع بهذا الفن الذي يتميز بالتزامه بقواعد اللغة العربية الصحيحة في الغناء، واختيار القصائد العظيمة لعمالقة الشعر الصوفي لغنائها، وحتى اللهجة المغربية لا يتم غناء أي كلمات لا تلتزم بآداب وضوابط هذا الفن الأصيل. ولا غرابة في ذلك، فالملحون رسالة فنية وليس مجرد غناء للتسلية، ونجد فيه تمسكا بالآلات الوترية والايقاعية الأصيلة والتي تضيف للكلمات العربية الفصحى نوعا من السحر الذي يصيب قلوب المستمعين قبل آذانهم.

الحلقة الأولى:

أظلنا شهر رمضان الكريم، وقبل حلوله يزدهر فن الملحون مع ظاهرة “نزهة شعبانة” التي تعرفها بعض المدن المغربية العريقة، كمدينة سلا وأسفي وأزمور .. وهي مناسبة تؤكد العناية والاهتمام بفن الملحون. وتعتبر نزهة شعبانة تتويجا سنويا لأنشطة شعراء الملحون والولوعين بهذا الفن الرائق، حيث دأبوا جميعا على استقبال شهر رمضان الكريم بتنظيم حفلات خاصة في الأسبوع الأخير من شهر شعبان، تسمى ” شعبانة “. وغالبا ما كانت تنظم في الحدائق والبساتين الموجودة ضواحي المدن. وهي مناسبة كذلك للترفيه والإنشاد وتبادل قصائد الملحون بين الأشياخ والحفاظ والخزانين والولوعين، وكذا التمتع بملذات العيش .. إشارة من هؤلاء إلى توديع تلك الملذات والاستعداد لاستقبال رمضان بما يقتضيه من صفاء ونقاء سريرة.
   وعن ” شعبانة ” يقول شاعر الملحون الأسفي الحاج محمد بن علي في حربة قصيدته

           ” شعبانة ”
آش را من لا أدرك في أسفي شعبانة   ……      لالة لالة
غنم بين اعوانس الحضر سلوانـــــــة ……        لالة لالة


بعد ذلك، يذكر الشاعر أسماء مجموعة من النساء اللائي خرجن في أحد أيام شعبانة للنزهة حيث قضى معهن اليوم كله في حبور وسرور. يقول:


نحكي شي اجلايب غزلان على الاقطار ….   يتهدوا ويمشيوا بالنكر
نتغتغة تم تلقاني اكبالهم نصفار وندبال
يا اللايم لو ريتهم ليس تضحى سالم ……  مهما على اوطا أسفي يدهلكوا
في ضل النوار انصيب كل وحـدة  …. …….. دارت مشموم في يدها
كان انظرتهــا  من الهوى سكرانة  ………….لالة لالة
يذهب عقلك من ابهاهم يفرق الادهـان …..      لالة لالة


سالبات عقول الرجـــــال …

وحين يطل شهر رمضان، تتهلل روح شاعر الملحون فرحا بقدوم هذا الشهر المبارك الكريم، فيحس بنوره ينير الكون، وتسمو روحه ، ويدعو نفسه للتمتع بالطاقة والصلاح ، ويذكرنا بنعيم الآخرة . ففي هذا الشهر، تصوم الجوارح كلها عن كل ما يغضب الحق سبحانه، فتصوم العين عن النظر المحرم، ويصوم اللسان عن الكذب والغيبة والنميمة، كما تصوم الأذن عن الإصغاء إلى ما نهى الله عنه.
  ولذلك، فإن الصوم في رمضان، يعد من أفضل العبادات وأجل الطاعات. ومن فضائله أن الله تعالى كتبه على جميع الأمم، وفرضه عليهم. يقول تعالى في محكم تنزيله:
” يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون. ” ولولا أنه عبادة عظيمة، لا غنى للخلق عن التعبد بها لله، وعما يترتب عليها من ثواب، ما فرضه الله على جميع الأمم.
أيضا من فضائل الصوم في رمضان ، أنه سبب لمغفرة الذنوب وتكفير السيئات . ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” من صام رمضان إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه ..” يعني إيمانا بالله ورضى بفرضية الصوم عليه، واحتسابا لثوابه وأجره لم يكن كارها لفرضه ولا شاكا في ثوابه وأجره، فإن الله يغفر له ما تقدم من ذنبه. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان، مكفرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر.”
  ومهما قمنا بتعداد هذه الفضائل، فإنها لا تدرك حتى يقوم الصائم بآداب الصوم. ومن ثمة كان للمغاربة اهتمام كبير بشهر رمضان وبحرمة هذا الشهر الكريم، حيث يحتفى بقدومه بتزيين البيوت وكذا المساجد والزوايا وتهيئة أفرشتها، وتجديد أجهزتها السمعية والصوتية وتطييبها بالروائح الزكية، وإعدادها لاستقبال الوافدين عليها من المصلين، تعظيما لشعيرة الصيام. وضمن هذه الأجواء الرمضانية، انخرط شعراء الملحون للاحتفاء بشهر رمضان حيث كانت لهم عناية خاصة بهذه المناسبة، فتغنوا بها في قصائد رائعة، وذكروا فضائلها وصوروا مشاهدها، حيث اتجهت نفوسهم إلى الله بالخشوع والإيمان، كما أظهروا أهمية هذا الشهر الكريم في حياة الناس وعاداتهم وتقاليدهم .. وذلك لما يحمل هذا الشهر الكريم من معان دينية وروحية.

Related posts

Top