ويمر العمر

وبعد عامين من الوباء والعناء، أنا مدينة لي بلقاء، وفنجان قهوة، وأغنية حزينة، عله يأتي العام الجديد ويعلق الماضي على مشنقة الفراغ، كامتداد لكل الأعوام التي سبقته.. ربما يأتي خاشعا دليلا، ولا يأتي مثقلا بهموم كثيرة، وأحلام ماتت على قارعة الطريق، وآمال قليلة، أجملها عسى القادم أجمل، وعسى دموع العام الماضي تستبدل، وكيف ذلك وملامح العام الجديد توحي بأن الفرح راحل، والحزن قابع بمخاضه بعد لم يستكمل. 

لا بسمة ترى، ولا أمل يبشرنا بأن العام الآتي هو الأجمل، ليبقى الحلم معلقا على نياشين الأقدار، ونحن نكبر ونكبر، ونودع عاما تلو الآخر دون كلل ولا ملل، نتأرجح بين التاريخ، والذكريات، والمستقبل، فلا يختلط الوهم بالواقع، ولا يفيض الخيال بالأمنيات، ونحن غرباء وفي غربتنا لم يبق شيء على حاله، لا أنا، ولا قلبي، ولا الذكرى، وحده الحنين رابعنا، تارة يمشي ، وتارة يتعثر، ومآسينا مجتمعة تعرفني،  ولا أعرفها.. 

من أنت؟ ومن أنت؟ ومن منا؟ في هذا الطوفان المجنون، ومن منا لم يتعلم، بين وثب أو عزوف، قالوا بأن القادمين سيصلحون، ويملئوا جيوب المستقبل رملا،  وطينا، وسيبرؤون جروح الحياة، ويلبسون مزيدا من الأحلام، وذاك الطوفان المجنون قادم لا محالة،  والغرق لا يرحم، ولا سفينة تنقذ ما تبقى من عقلي تبا لهذياني الأعظم .

فهل عرفتموني…؟

أنا لا أشتري وجعاً ليلبس ثوب أعيادي ولا أقود عيوني لمقصلة الدرب كي لا تذبحني الخطوات.. فالحياة متاهة معقّدة ومرهقة؛ الأحلام جرعات من ترياق التمرد والشك، والأقدار خناجر تغرز في الروح، والعقل، والعمر مدينة من الخيال, شوارعها تكسوها المُتعة والأوهام, وميادينها من الحُب والآلام, كل مبانيها من الشك، وأرصفة من الحبر والضياع، والرقميات تقدم الهروب في صفحات، رحلات مجانية عبر الأزمان، والأكوان، والصمت حياة مَن لا حياة له أبدا لا يرحم .

ككل عام كنت أنا البطلة في الرواية، كنت الهدف في القصة، لأسمع صوت الليل يبكي علينا، يجهش في قصصنا، يتأمل كل الأحلام التي رميتها له، ويروي ما كنت أرويه له، ونهنهته تؤرقني، النجوم تتساقط من السّماء ، والآمال تمد يدها لتصافحني ..

هل فعلا كنت أحلم؟

كنت أرفض مد يدي لتعانق حلمها الذي طال، وكم وبخت نفسي رغم أني أعرف أنه خيال ولا أخجل .

وسرعان ما أتدارك نفسي، ألحق بها، ولكن لا جدوى من ذاك، فقد فات الأوان، وكل إحساس بداخلي أعلن العناد، والخضوع، ليتساقط على رأسيّ رويدا، فتشل أطرافي،  وحواسي تماما، ولا أشعر بشيء حولي، يملأ صراخي، المكان يستعيد ذكرياته الكئيبة، فتبلل دموعي ذاكرتي، وتنهك قلبي ولا أشعر بشيء.. لقد نمت، نمت كثيراً واستيقظت على أمل بأن كل شيء كان كابوسا وأبدا لم يكن أجمل، أحمل نفسي وكأنها بثقل الأرض وأمضي، وحيدة، باردة، كئيبة بدون حزن، والحزن يأكلني ولا يرحل، فيغيب حديثي الذي أعتدت أن أنصت إليه، يغيب بعدما اجتاحني،  كلي من رأسي، من قلبي، من جسدي الهزيل المحطم، كلما رأيت ملامحي في المرآة أخبرهم عن لوني المفضل وكيف كانت تغلبني سعادتي وأنني قادرة على القصاص من وحدتي حتى وإن غالبني التعب. وأسأل نفسي مرارا،  كيف يمكنني مع كل هذا البرود؛ أن أبقي قلبي مشتعلا ثائراً كبركان، يهدي كل بداية عام ولا يكسر؟

أدعوني في ذاكرتي، لأزور ذاتي ككل عام، بدعوة رسمية، وكأني شخص غريب عني، أتمنى لو أني أمسح أثري من ذاكرتي، ألملم بعضي مني، وآخذ معي ما تبقى، أحول غيابي عنيّ، إلى ذاك الثقب الأسود في رأسي، وكلما مررت في مخيلتي أحيل ذاتي إلى رماد، أحرق رأسي، وأحرق ذكرياتي، وأمضي، ولا أعرفُ من وجهتي شيئا، إلا ذاك الشعور الذي أقاومه، ليشق الشفق أول خيوطه، فتغالبني دموعي، تسابقني كل عيد ميلاد، تصلي بقبلي ما إن تبدأ الإعلانات السماوية لحدث مرتقب، وتعلنَ انصهارها حتى تخجل الشمس من هيبة المَشهد وتتوارى خلف السُحب على استحياء، منهمرة، فيعلن انهزامي الانتصار فوق خدي، لأخبرهم حيث يترقب الجميع استقبال أول حكايا العرض وكيف أنني دائما البطلة والرواية والقصة..

يبدو أن مضغةَ بدايتي كانت في رحمِ العاطفة، وأن روحي انبثقت بسرعةٍ قبلَ ارتدائها وشاحا يستر حقيقتها عن الجميع فأمسيت شفافةً حداً يسمح بالرسم والكتابة عليّ بسهولة.

فسردت لهم كيف قصصت شعري وكيف أنني أغفو على جانبي الأيمن، فالعضلة الكامنة في الطرف المقابل أضعف من أن ألقي جسدي الهزيل فوقها. وكيف يبدو طولي وقد تجاوز حدّه المثالي وأنّ عيناي يبدو لونهما بنيا فاتحا تحت ظلّ الشّمس وأنني أتلاشى كلما لاحت شارة الشتاء على مسارح الخريف الصفراء، لأغدو ذلك المشهد الشهي، الذي يرى استقبال خدود الأرض لقُبلات السماء، ونفاذ عِطر تلك الغيوم في مسامات الجسد، ومُلامسة ذلك الغزل العليّ لأعماق القلوب.

فليت الأماني نوارس تقتات على طيف وذكرى.. وليت في القلب جعبة تتسع لكل هذه الأسرار…

هل أخبرتكم فعلا أنني لا أجيد الغناء؟

وصوتي نشاز، لم يعد عذباً كما كان حينما كنت أغني لقطتي. والدندنة ها هنا التي تسمعونها وأرددها أمامكم ما هي إلا اقتباس ذاتي من ذاتي لأقف بينكم اليوم كجلمود صخر لم يهده التعب أمام جثمان العالم. 

اليوم أنا اللاشيء واللاوعي.

وغداً أنا أنتم وأنتم أنا وأنا لست سوى ذكرى لا تغادر عقولكم. وربما سأصبحُ الهاجس الوحيد بين جدران عقولكم..

وأنا أين سأكون؟

ربما اليوم أنا البطلة، والقصة، والرواية التي ستقرؤون فيها كيف أغادركم؟ وأدعوكم لحفلة الميلاد، أو حفل جنازتي، فصبرا على روحي، رحيلي أتعس من أن أدونه، أو أسطره على ملامح الورق، لأعود بثياب لقاء قديم تلثم قبري كلما تيبس لساني بالصمت .

فقط أتركوني أجمع أوصال عمر تبعثر صبراً بين هذا العام وذاك، وأقيم حد الحذر برقبة الأماني، كلما غنت لأوهام اللقاء، أو كلما  عصرها الشوق على أرض النسيان، لذلك سأختم لهفتي وأقضم ظهر انتظاري بحلم تعتق على عتبات السنين ومع أنفاس الصباح الخادع، لم يكن الختام سيئا كما خيل لي، سمحت لي الحياة بأن أكتب وأخفف خوفي وألمي من فقداني نومي الهادئ وأن أعود له في كل نص وأنام قريرةَ العينين في عالمِ الخيال اللطيف بين حروف لا تخلو من خيوط كفني .

بقلم: هند بومديان

الوسوم
Top