كلام الصحراء
صارت الصحراء بمثابة الفضاء الخاص للأفلام الأخيرة للمخرج داوود أولاد السيد، وضمن هذه الأفلام “كلام الصحراء” الذي عرض ضمن المسابقة الرسمية لهذه الدورة، لقد أكد هذا الفيلم على حقيقة أن فضاء الصحراء لا يزال بحاجة إلى استثماره في أفلامنا، بالنظر إلى الغنى الذي يكتنزه على مستويات عديدة، غير أنه بالنظر إلى ندرة الكتابات السردية والحكائية حول هذا الفضاء، يضطر المخرجون إلى بذل مجهود في اقتراح سيناريوهات أو المساعدة في كتابتها، وهذا ما فعله داوود أولاد السيد، حيث برزت بصمته الخاصة في الكتابة الفيلمية.
يعتمد مخرج “كلام الصحراء” على الخط السردي التقليدي في تناول الموضوع، فهناك قصة تتوالى أحداثها بشكل منطقي إلى حد أن المتفرج لا يبذل مجهودا في الفهم، هناك شاب يبحث عن والديه وفي الطرف الآخر هناك أب من منطقة صحراوية يبحث عن ابنه الذي هاجر إلى أوروبا، مهنة هذا الأب هو صناعة التحف، وهي في المجمل عبارة عن أواني خزفية وقنينات زجاجية مزخرفة، وقد دأب على وضع رسائل بقلب تلك القنينات التي يقتنيها السياح الأجانب من عنده في الغالب، بعد أن يضمنها أمنيته في العثور على ابنه، دون أن ينسى الإشارة إلى عنوانه، وبالمصادفة، ستسقط إحدى تلك القنينات بين يدي الشاب الذي يبحث عن والديه، ويطلع على الرسالة وسيذهب للقاء صاحبها معتقدا أنه والده، ومن ثم ستبدأ رحلة البحث، وفي قلب هذه الرحلة، سيكون اللقاء بفضاء الصحراء، وسيحظى الشاب بحسن الضيافة لدى أسرة ذلك الرجل، إلى حد أنهم سيعتبرونه واحدا من أبنائهم، وبسرعة سيندمج الشاب في الحياة اليومية لهذا المجتمع الصحراوي، وتتطور الأحداث خصوصا بعد أن يتعرف على شابة أتت لإنجاز بحث عن الثقافة الشفاهية الخاصة بهذه المنطقة الصحراوية، وكانت تعتمد على أب الأسرة لتدوين هذه الثقافة، سيما وأنه يعتبر ذاكرة ثقافية، يحفظ العديد من القصائد الحسانية في مختلف الأغراض الشعرية، كما سيربط الشاب علاقة عاطفية مع موظفة بالفندق الذي كان قد قضى به الليلة الأولى عند مجيئه لهذه المنطقة بحثا عن والديه، ومن ثم سيجد نفسه بين معشوقتين، مما سيؤدي إلى وقوع الغيرة بينهما، وهذه مجرد فقط جزئية من جزئيات الفيلم، وليس محوره الرئيسي، عموما فإن سلوك هذا الشاب اللطيف جعله محببا لدى الجميع والكل يريد أن يقربه إليه، وبالنظر إلى أن من هواياته ممارسة التمثيل، سيشجعونه على المشاركة في فيلم يجري تصويره بنواحي المنطقة، وهو بالمناسبة من المواضيع الأثيرة لدى المخرج داوود أولاد السيد، وقد سبق له أن استثمره في أكثر من تجربة من تجاربه السينمائية، سينجح الشاب في امتحان الكاستينغ، وسيؤدي دورا يتم فيه استثمار الثقافة المحلية بالخصوص، وفي تلاحق هذه الأحداث المتشابكة إلى حد ما، يضعنا المخرج في قلب فضاء الصحراء، بكل ما يزخر به من غنى على مستويات عدة: المعمار، اللباس، دلالة الألوان الوثيقة الصلة بهذه المنطقة الصحراوية بالذات، الثقافة الشفاهية، السلوك الإنساني المميز الذي يرقى إلى مستوى النبل.. وكيف أن الصحراء بالنظر إلى سكونها وصفائها، تساهم في التطهير الباطني، وكيف أنها تتطلب القوة والصبر للاندماج في وتيرتها الحياتية بالرغم من طابعها البسيط.. كل هذه الخصائص يوظفها المخرج بأسلوب يمنح راحة بصرية، إنه يهتم بشكل ملحوظ بخلق مساحات فارغة، لكنها حابلة بالدلالات، سيما وأن الأمر يتعلق بفضاء الصحراء بكل شساعته؛ فهو عندما يصور مشهد الكثبان الرملية على سبيل المثال، فإنه يحرص على أن يقدمه بكامل جزئياته إلى حد الإشباع.
فيلم “كلام الصحراء” ليس مجرد بحث شاب عن والديه الذي لم يسبق له أن تربى في حضنيهما، هذا البحث مجرد ذريعة ليضعنا المخرج في قلب الصحراء، وفي قلب الحياة المعيشية لهذه المنطقة، سواء داخل البيت بكل خصوصياته أو خارجه. الفيلم أكثر من ذلك، إنه يحمل طابعا تربويا بدرجة أساسية، ويحق أن يعرض في المهرجانات الخاصة بهذه الموضوعة بالذات، على اعتبار أنه يولي أهمية قصوى لحفظ الذاكرة الثقافية المحلية، ولأنه يقدم معلومات ضافية عن الثقافة الصحراوية، ويقف حتى عند دلالات الألوان: الأخضر والأزرق والأصفر، التي ترتبط بهذه المنطقة والتي يتم توظيفها في اللباس والمعمار وحتى في الأواني، إلى غير ذلك.
لقد استطاع هذا الفيلم أن يجعلنا نقتنع بأن الصحراء لها جمال يبعث على الخوف، وهذه العبارة تم النطق بها بصراحة من طرف أحد شخوص الفيلم، لكنها تنم عن إحساس صادق.
التجربة الإخراجية لدى داوود أولاد السيد، في هذا الفيلم الطويل بالخصوص، تدفعنا إلى الاقتناع بأن تناول موضوع سينمائي، كيفما كان هذا الموضوع، لا يتطلب قوة تخييلية خارقة لدى المخرج، لكي يكون مقنعا، بل يكفي أن ينحو منحى البساطة في الحكي، ذلك الحكي الطافح بالصدق.
قليل من ضوء القمر
للمبدع رشيد الوالي حضور لافت في هذه الدورة، على اعتبار أنه مشارك في عدة أفلام طويلة وأخرى قصيرة مدرجة ضمن المسابقة الرسمية، سواء باعتباره ممثلا أو مخرجا، وبالنسبة للشريط القصير “قليل من ضوء القمر” فيؤكد فيه بصمته الخاصة في الإخراج السينمائي.
هناك اشتغال قوي على مستوى توظيف الخطاب الذي يعتمد على الحركة أكثر من الحوار، استثمار التعبير الجسدي والمؤثرات المحيطة والسمو بها أو بالأحرى إعطائها بعدا حكائيا له دوره في تطوير وتيرة السرد.
لا يعنى رشيد الوالي بالخط السردي المتوالي خصوصا في أعماله ذات النفس القصير، ومنها هذا الشريط الذي ينطلق من واقعة ارتباط سجين بفتاة سيفضي إلى زواج، هذا الارتباط تم بشكل اعتباطي، حيث أن مكالمة هاتفية خاطئة من طرف امرأة ستجعله متمسكا بالحياة بعد أن كان قد بلغ حدا لا يطاق من اليأس.
لقد كانت هذا المكالمة بمثابة ضوء انتشله من عمق ظلام الزنزانة، وهو ما دفعه إلى أن يهتف بأنه لا يهمه أن تقوم إدارة السجن بقطع تيار الضوء في وقت محدد من الليل، ما دام أن اتصاله بتلك الفتاة لم ينقطع، هذا يحيلنا على بعض الأعمال الروائية التي وظفت مثل هذا الموضوع في قالب إبداعي كما هو الحال بالنسبة لرواية تحمل عنوان: نفق تضيئه امرأة واحدة، لقد كان لهذه المرأة التي هاتفته من خارج السجن إسهام في إخراجه من نفق اليأس والتعاسة.
قليل من ضوء القمر الذي تجسد بالفعل في صورة قمر حقيقي يصل إشعاعه من كوة في الزنزانة، لكن هذا القمر أو بالأحرى ضوءه، هو كذلك إحالة على المرأة التي أنقذته من وضع حد لحياته، عن طريق تواصلها البريء معه.
سيضعنا هذا الشريط من جهة أخرى، في قلب مقارنة تقوم على أساس التناقض، فالحارس الذي يشتغل داخل المؤسسة السجنية نفسها، بالرغم من أنه حر، طليق، فإنه يعتبر نفسه أقل حظا من ذلك السجين، إلى حد أنه يشعر بالغيرة نحوه.
قليل من ضوء القمر كان كافيا لكي يجعل السجين يطيق الاستمرار في الحياة، خصوصا وأن هناك هاتفا من العالم الخارجي آمن به وتعاطف معه، ليس ذلك فحسب، بل توجت هذه العلاقة التي تمت بشكل اعتباطي كما سلفت الإشارة إلى ذلك، توجت بعقد قران، هنا تبرز القوة التخييلية لرشيد الوالي باعتباره مخرجا، فقد صور ليلة الدخلة بصيغة إيحائية، عن طريق اعتماد مجموعة من الاكسسوارات والرموز، من قبيل نشر أوراق الورد الأحمر على فراش السرير، باعتبار أن ذلك يحيل على دم العذرية، ولم يتم السقوط في التصوير الواقعي الفج الذي يفتقر إلى الخيال والإبداع.
إن السرد القصصي الذي يقوم على أساس التدرج المنطقي من مرحلة إلى أخرى موالية تكون بالضرورة نتيجة طبيعية لها، يبدو أنه لا يدخل ضمن اهتمامات هذا المخرج، خصوصا في شريطه القصير هذا، بقدر ما أنه يعمل جاهدا على نقل مشاهد حابلة بالإيحاءات، لقد رأينا كيف أن انعكاس الوجه على مرآة مضببة، لم يتم بشكل اعتباطي، بل له دلالته باعتباره يرمز إلى مصير غامض، بالنسبة لتلك الفتاة التي اختارت من تلقاء نفسها أن تربط مصيرها بشخص محكوم عليه بالمؤبد.
كما أن مشهد العنف في مستهل الشريط لم يتم عرضه بشكل بليد كما نلمس ذلك في بعض الأفلام، بل جرى دمجه بشكل متناغم مع الجينيريك، مهيئا المتلقي بذلك للولوج إلى حياة ليست سهلة.
هكذا نجد أن حركة الكاميرا يتم التحكم فيها بنوع من العقلانية التي تصب في اتجاه تقديم عمل فني له خصوصيته الإبداعية والجمالية أكثر من سرد حادثة قد نعتبرها واقعية أو قد نستبعد حدوثها في الواقع.
————–
برنامج أفلام المسابقة ليومه الخميس
العاشرة صباحا
الفيلم القصير “الذهاب” لحمزة بومالكي
الفيلم الطويل “بون آوت” لنور الدين الخماري
السادسة مساء
الفيلم القصير “يوم خريف” لعماد بادي
الفيلم الطويل “وليلي” لفوزي بنسعيدي
> مبعوث بيان اليوم إلى طنجة: عبد العالي بركات