التوثيق للأغنية المغربية

 إن الباحث في تاريخ الأغنية المغربية القديمة والمعاصرة على حد سواء، سيتعب كثيرا في عمله، وستعترضه إكراهات عديدة، بالنظر إلى أن هذه التجربة الغنائية لم يتم التوثيق لها بشكل علمي وأكاديمي، وهناك العديد من الإنتاجات صارت مفتقدة، لعدة اعتبارات، يأتي على رأسها الإهمال واللامبالاة وعدم الوعي بالأهمية التي يكتسيها ميدان التوثيق في ما يخص الحفاظ على الذاكرة الثقافية، مع العلم أن بلدا بدون ذاكرة هو بلد محكوم عليه بالتلاشي.

****
الحفاظ على الإنتاج الغنائي المغربي، لا يقتصر على تسجيله وعرضه في السوق، بل من المفروض أن تتم مواكبته بالبحث والدراسة والتحليل.
وبالرغم من الطفرة التي تحققت على مستوى وسائط الاتصال واليسر الكبير الذي توفره في ما يخص النشر والتوثيق، غير أن المهتمين بالذاكرة الغنائية المغربية لم يستغلوا هذه الامتيازات، ويعملوا بالتالي على توفير المادة التوثيقية التي تصب في التعريف بالإنتاج الغنائي المغربي قديمه وحديثه، ووضعها في متناول عموم الناس.
صحيح أن هناك مجهودات جديرة بالتقدير، لكنها جد محدودة وتعتورها عدة نقائص، من ذلك أنك قد تصادف صفحة من صفحات الويب، خاصة بالأغنية المغربية، وتجد فيها صور وأسماء مطربين معينين، لكنك لا تجد النصوص الكاملة لأغانيهم، كما أنها تخلو من المادة التحليلية، فضلا عن أنه يتم إهمال باقي العناصر المكونة للعمل الفني، ونحن نعلم أن المنتوج الغنائي عمل جماعي، يتضافر في إخراجه إلى الوجود العديد من المتدخلين؛ فعلى سبيل المثال، غالبا ما يتم تغييب أفراد الجوق الموسيقي، مع أن كل واحد منهم يستحق وقفة متأنية، وعلى ذكر الجوق، فقبل أيام قليلة ودع دنيانا عازف كمان، شارك في قسم كبير من الربرتوار الغنائي المغربي، غير أن الأجيال الحالية وحتى من جايلوه لا يكادون يعرفون عنه شيئا، في حين أن عطاءاته الموسيقية كانت تستحق الوقوف عندها ودراستها، هذا مجرد مثال.
من دون شك أن الاستمرار في تجاهل الأهمية التي يشكلها التوثيق في ما يخص الحفاظ على الذاكرة الثقافية المغربية، لا يعدو أن يراكم العديد من الخسارات التي سيكون من الصعب في مقبل الأيام استدراكها، علما بأن الإنتاج يتواصل يوما بعد يوم، في مختلف حقول إبداع الأغنية المغربية، والأسماء الفاعلة في هذا الميدان، خاصة الرائدة منها، تنسحب الواحدة تلو الأخرى.. وبالتالي فإن المواكبة المستمرة لما ينتج في ساحتنا الغنائية، تظل مطلبا ملحا، من أجل تحصين هذه الإنتاجات من التلاشي والاندثار.
هذه الظروف المحيطة بالأغنية المغربية، لا بد أن لها تأثيرا سلبيا على الممارسة الإبداعية، ولعل من مظاهر ذلك، التراجع الملحوظ الذي باتت تشهده أغنيتنا على المستوى الفني وحتى على مستوى وتيرة الإنتاج.
عند إلقاء نظرة على رفوف المكتبات، خاصة منها الجناح الخاص بالأغنية، لا نكاد نعثر على إصدار جديد جدير بالاعتبار، يدور محوره حول إبداعاتنا الغنائية، في المقابل نجد الأجانب يهتمون بإنتاجهم الغنائي ويدرسونه ويكتبون عنه ويصدرون كتبا خاصة به، ويحيطون به من مختلف جوانبه، حتى ما يتعلق منها بالتفاصيل الدقيقة والجزئيات الصغيرة.
كما نجد لديهم على شبكات الأنترنت صفحات خاصة بكل فنان على حدة، لنأخذ على سبيل المثال المطربة الفرنسية ميراي ماثيو، هناك العديد من الوثائق بخصوصها: عروضها السابقة، مواعيد عروضها القادمة، ألبوماتها، أنشطتها الحالية سواء ما تعلق منها بالفني أو الشخصي أو الاجتماعي أو العائلي.. إلى غير ذلك، فضلا عن البيوغرافيا والصور ونافذة خاصة بالتواصل معها.. إلى غير ذلك، أين نحن من هذا الاهتمام الذي يحظى به الفنان؟

لا شك أن هذا الفراغ الذي تعاني منه ساحة التوثيق ببلادنا، خاصة ما تعلق منها بما هو فني، غنائي على وجه الخصوص، ليس من مسؤولية الوزارة الوصية على القطاع لوحدها، بل هي مسؤولية مشتركة بين مختلف الأطراف ذات الاهتمام بالأغنية المغربية، ونحن نعلم أن هناك العديد من الإطارات الجمعوية التي تدعي غيرتها واهتمامها بالإنتاج الغنائي المغربي، وبالمغني المغربي، ومنها من يحظى بدعم الدولة للقيام بهذه الوظيفة بالذات، غير أنها عادة ما تتركز جهودها على تنظيم حفلات غنائية أو ندوات، في حين أن عملية التوثيق لإنتاجنا الغنائي، يظل آخر شيء يتم التفكير فيه، ولا أدل على ذلك، أن معظم تلك الجمعيات لم تنشئ لحد اليوم مواقع إلكترونية خاصة بالأغنية المغربية، ونحن نعلم أن هذا الميدان الفني شاسع، ويتطلب تكثيف الجهود للإحاطة به وتوثيقه، في إطار الحفاظ على الذاكرة الثقافية.
****

من أجل أن تتطور الأغنية المغربية، لا بد من مواكبتها والاهتمام بها من طرف النقاد والإطارات الجمعوية والأخذ بعين الاعتبار الدور الهام الذي تلعبه وظيفة التوثيق في الحفاظ على مجمل الإنتاجات التي تصب في هذا المجال، بالنظر إلى أن ذلك يعد جزءا أساسيا من ذاكرتنا الثقافية، لا ينبغي التفريط فيه.

بقلم: عبد العالي بركات

Related posts

Top