رحلة في زمن الاحتلال والمقاومة
ضمن منشورات دار السويدي للنشر والتوزيع (أبو ظبي) ومنشورات المتوسط (ميلانون ـ إيطاليا)، وفي إطار اختيارات جائزة ابن بطوطة للرحلة المترجمة في دورة 2017 ـ 2018، التي يمنحها المركز العربي للأدب الجغرافي، أبو ظبي ـ لندن، صدر للباحث المغربي محمد ناجي بن عمر كتاب: (رائحة البارود: نحو احتلال الجنوب المغربي 1912 ـ 1913) لمؤلفه الفرنسي النقيب كورني.
وتأتي ترجمة هذا الكتاب، الذي يستطلع ملامح الاحتلال الفرنسي للجنوب المغربي، ضمن مشروع متميِّز راهن فيه الباحث المغربي محمد ناجي بن عمر على تبصير القارئ بجدوى إعادة قراءة الكتابات الكولونيالية: الإثنوغرافية والأنثربولوجية والسوسيولوجية والعسكرية والديبلوماسية… من منطلق إعادة التحديق في ملامح الذات المنعكسة في مرآة الآخر، وولعا بما يمكن أن تسديَه هذه الكتابات الصادرة عن عين أجنبية ـ بما فيها النسائية ـ من خدمات للمغرب المعاصر بمدنه وقراه ومداشره وصحاريه وقبائله ونبض حياته الاجتماعية والسياسية والدينية… وفي هذا السياق يمكن أن نستوعب مجهوده الترجمي الجبّار لـ(زمن”لمحلّات” السلطانية) و(مراكش) و(الصلحاء) و(رحلة إلى المغرب) و(الحياة الاجتماعية والسياسية للبربر) و(في قلب الأطلس).
راهن محمد ناجي على ترجمة أعلام: (منهم لويس أرنو، إدموند دوتي، رينولدلادريت دو لاشارير، روبيرت مونطاني، المركيز دو سي سيغونزاك) كتبوا عن المغرب من منطلقات معيّنة، تلونت بلون الاستعمار، لكن هذا لا يمنع من ضرورة مجادلتها ونخْلها، واستدعائها للمشهد الثقافي الراهن، استجابة لمقتضيات الصيرورة التاريخية، وتطلعات الأمّة. ولا شك أن هذه القناعة، وجدت لها صدى لدى المثقفين المهتمين بالمشهد المغربي في بحر القرنيْن التاسع عشر ومطالع الألفية الثانية. ولربما كان هذا هو سر الإقبال على إعادة طبع هذه الكتب مترجمةً، أما وقد وقعت تحت سلطان غواية السفر على خطى من عبروا مسالك الشاوية ودكالة والرحامنة والحوز وسوس وفاس وأعماق الأطلس، واستوقفتهم الزوايا والحصون والقصور والقصبات والأضرحة، كما استوقفتهم غرائب الطقوس والممارسات والشعائر، وعجائب الطوائف الدينية: (عيساوة، درقاوة، احمادشة، هدّاوة، كناوة…). وما كان لكل هذا أن يتأتى لولا تداخل المحقِّق المدقِّق والمترجم النبيه تحت جُبّة واحدة، جعلت من العملية الترجمية لديه جهدا تحقيقيا، تُلفت سلاسته القرّاء، وتستدرجهم للتفيُّئ تحت ظلال المعاني الوارفة، والمقاصد اللطيفة، دون صداع رأس تتسبب فيه العديد من الترجمات اليوم.
والكتاب الذي سعدنا بتقديمه ومراجعته ووضع هوامشه وثبت أعلامه لا يخرج عن السِّرب، اعتبارا لتوقفه عند مرحلة حاسمة من تاريخ المغرب الحديث (1912 ـ 1913)، عَمَد فيه صاحبه النقيب كورني، شارل ـ جوزيف ـ أليكساندرCornet, Charles-Joseph-Alexandre (1879 ـ 1914)إلى تتبع التفاصيل الصغرى والدقيقة لغزو الجنوب المغربي تحت قيادة الجنرال الشهير شارل مانجانCharles Mangin ، الذي قدّم لهذا العمل ـ المُهدى له ـ دون أن يخفي إعجابه الكبير بصاحبه.
ومعلوم أن الجنرال مانجانساهم في احتلال المغرب تحت قيادة الماريشال الذائع الصيت:ليوطي ( Louis Hubert Gonzalve Lyautey). وقد تميّز الرجل بالاستيلاء على مراكش. وهو من الفاعلين الرئيسيين في الحملة على المغرب ما بين سنتي 1907 ـ 1914. وحري بالذكر هنا أنه صاحب كتاب: (القوة السوداء)، وهو كتاب يوصي فيه بأهمية الاستخدام العسكري للموارد البشرية لإفريقيا السوداء لاحتلال إفريقيا الشمالية. كما دعا فيه إلى الاستخدام العاجل على نطاق واسع للقوات الاستعمارية المسماة “قوة سوداء”، في حالة نشوب حرب بأوروبا. ولا عجب في أن يتم إهداء الكتاب المترجم اليوم إلى شخصية كان لها باع طويل في الحروب الكولونيالية وتجييش الجيوش لها، والكعب المعلى في التأليف حولها.
كان النقيب كورني يراقب رحى المعركة بكل تفاصيلها وتكتيكاتها وحيلها ومعدّاتها، دون أن يخفي إعجابه ببعض زعماء المقاومة، وبجمال المغرب، فصوّر ببراعة بّورتريهات رائعة عن هؤلاء الزعماء، ووقف وصفه عند لوحات شاعرية لمناظر البلاد: (حقول، حدائق وبساتين، قصور، قصبات، أودية ووديان، طيور وزهور وأشجار…)، مما أكسب نصّه حيوية أبعدته عن التقرير العسكري الجاف. وتسلّل ماء الأدبية غَدِقا إلى الكثير من مقاطع النص، فجاءت نديّة تضِج ببهاء الأمكنة ورونقها.
كما كان كورنيينتبه إلى المعالم الحضارية المغربية ـ أمازيغية وعربية ـ في اللباس النسائي والرجالي: (بلْغة، شربيل، قفطان، برنوس..)، وألوان الطبخين الأمازيغي والعربي، وشكل المعمار: (معمار القصبات والقصور والمداشر والقرى…). وكثيرا ما وقف عند الملّاح لوصف وضع يهود المغرب فور خروجهم من أجواء القرن التاسع عشر، وعينُه على المنافِس الإسباني والألماني، وبعض معالم الحداثة في المجتمع المغربي كالفونوغراف والبيانو، وصلتهما بترف حياة القياد.
وبقدر ما كانت السخرية والغرائبية استراتيجيتان خطابيتان لتأكيد تفوق الذات، وتكريس دونية المغربي ـ وهو ما يفرضه السياق الاستعماري ـ جاءت بّورتريهات زعماء المقاومة وكبار القياد، والوصف الباذخ لجمالية الفضاء لتذيب جليد خطاب حاقد يأتي على الأخضر واليابس في العلاقات الإنسانية.
ولا يسعنا في النهاية إلا أن نقول إن النص المترجم دقيق وحاسم، يسعف المؤرخين اليوم في إعادة قراءة الظاهرة القيادية في مطالع القرن الماضي، وطرائق تدبيرها لأزمة الاحتلال، بمناوراتها ودسائسها وبطولاتها واستراتيجياتها ونجاحاتها وانتصاراتها وهزائمها، في معاقل الجنوب المغربي: الرحامنة، تادلة، زَيان، القصيبة، سوس، تيزنيت، تارودانت…
> بقلم: عبد النبي ذاكر