حين مراجعة المجاميع القصصية المغربية وكذا الأجنبية التي صدرت على امتداد عدة عقود، سواء للرواد أو للكتاب الجدد على حد سواء، من النادر أن نعثر على نموذج منها يتناول الموضوع الذي له ارتباط بشهر رمضان.
هل معنى هذا أن الشهر الكريم لا يوحي للأدباء بأي شيء؟
الملاحظة الأخرى التي يمكن تسجيلها ونحن بصدد إعداد سلسلة من النصوص القصصية للنشر في هذا الفضاء الرمضاني، هو أن أغلب هذه النصوص تتطرق إلى يوم بعينه من رمضان، ألا وهو يوم السابع والعشرين، أو ليلة القدر بالأحرى، وهذا ليس مفاجئا، على اعتبار ما تحبل به هذه الليلة من رموز وإيحاءات.
إننا نفتقر إلى أنطولوجيات في مختلف فنون الأدب، تخص موضوعات بعينها. إن عملية جمع النصوص الخاصة برمضان، بقدر ما هي متعبة؛ فهي كذلك ممتعة ومفيدة، ولا شك أن مكتبتنا بحاجة إلى هذا النوع من الأنطولوجيات التي تتيح لنا الإحاطة الشاملة بالنصوص التي تتناول موضوعا أو قضية بذاتها، بأصوات متعددة.
حلم ليلة صيف رمضانية
> بقلم: علي الحسون
هذا صوت المؤذن يأتيه فيغسل كل داخله، يقف نشطاً، يلقي نظرة سريعة على ساعة معصمه، إنها الخامسة صباحاً، يدس قدميه في “خفه” الأبيض تحت السرير يدخل إلى حمامه صوت الدش.. له لذة.. المنتشي مع هذا الصباح الباكر يلف
جسمه في روبه الأزرق، على صفحة المرآة أمامه راح يتابع بعض الغضون التي بدت له على صفحة وجهه. لاحظ انتشار الشعر الأبيض على فوديه، سريعا أدار بصره إلى جهة أخرى، ارتدى ثوبه الأبيض. خرج مسرعاً. صوت صدى مكروفونات المسجد الذي بدأ في الارتفاع يشعره بقرب إقامة صلاة الفجر.
وقف أمام باب جبرائيل.التفت إلى خلفه، تذكر، هنا كانت تلك الحارة العتيقة، حارة الأغوات، تخيل قهوة – طيفور – وفرن الخبز.. والمسقايا وعين الماء وأصوات الساقيين “الآخر”.. تذكر عم راجح وهو يخترق الزقاق الملتوي وعلى رأسه العيش الساخن. شعر بغصة في حلقه وصور تلك الشخوص في الحارة تنثال على ذاكرته.
كان عم فالح يجلس في دكة الأغوات بجانب الأغا تيسير، بلباسه المميز وطرقعات حبات مسبحته يأتيه واضحاً.
كان صوت المؤذن وهو يقيم الصلاة، يغسله من الداخل ويشعره بحنين لتلك الأيام الخوالي. كان صوت الإمام يتردد صداه في المسجد الواسع. راح يحلم بذلك الصوت الرخيم الذي تعودت عليه أذناه في هذا الشهر الفضيل وهو يخترق القلوب قبل الأسماع، وهو يقرأ سورة الرحمن في هذا الفجر الندي. بعد الصلاة ارتكن إلى إحدى أعمدة المسجد، غشيته سنة من النوم فراح يتابع فيما يرى النائم.
***
هذا باب المصري بكل ما فيه من تفاصيل البيع والشراء، هؤلاء بائعو العيش، والشريك بكل أنواعه أبو السمسم وأبو السمن. وهؤلاء بائعو النعناع والورد وحبات ليمون ابن زهير وتختلط الأصوات، فطورك يا صائم يرددها بائعو السمبوسك والقطايف والطرمبا. تخطى بائع السوبيا، إنه لا يشربها، وبالذات في هذا الشهر الكريم، هكذا تعود طوال حياته.
وقف أمام دكان عم شحات، في طرف سوق الطباخة وهو يفرد على طاولته عجينة “السمبوسكط”، ثم ذهب إلى دكان عم حسن الذي في مدخل الزقاق. كان الزحام حوله كثيفاً، مد له قدر الفول الصغير ليذهب إلى جانبه إلى عم يوسف بائع الجبنية. أخذ حبات منها. راح مسرعاً إلى البيت، وضع كل ذلك أمام أمه وخرج ثانية، باقي على المغرب أكثر من ساعتين.
كانت أمه قد رصت أطباق المهلبية تحت “مرفع” الماء بعد أن غطتها بقماش من الشاش الأبيض. عند عتبة الباب كانت فاطمة ابنة الجيران، تدخل مسرعة، تحاشاها. تبادلا نظرات الارتياح. راح يقفز من على قنطرة الماء المتسربة من بئر الحوش، وهو مرتاح البال سعيد الحال. تذكر قول أمه وأمها فاطمة لعبده وعبده لفاطمة.
***
كانت البشكة عند دكان خميس، ذلك الاسكافي الأنيق في ملبسه وعمله عندما توقف عبدالله بذلك الجيب العتيد من ماركة الفورد، بلونه الزيتي الداكن، كان خليفة أول الراكبين ليلحق به الجميع للذهاب إلى بئر عثمان في سلطانة بجانب الربخية. في تلك المزرعة التي تحوي بعض الأبقار، وبعض الدواجن المختلفة وذلك الطاووس والبط السابح في أحواض المياه يشكلون منظراً جميلاً. كان خليفة حريصاً على الإتيان منها ببيض الدجاج. كان رجلاً أبيض القلب سمح النفس. كان إنساناً حمولاً لكل أخطاء “الشلة” الذين يتعاملون بروحية صادقة معه. كان أكثر تسامحاً عندما التقط “محمد السلك” عصا وراح يضربه بها ضاحكاً، وهو يؤنبه على تأخره عن الحضور، وكان حاملاً بعض الحاجات من الشريك الحار في يده متحملاً ذلك “الضرب”. كانا لحظتها أمام مبنى البلدية، الشلة في ذلك الجيب يتابعون ذلك، عندها ارتفع صوت حسين ضاحكاً على ذلك المشهد.
كان عم أبو صلاح بفانوسه، بذبالته المرتعشة وهو يجر حماره وصوته الناعم الساحر تردد صداه بيوت ذلك الحي:
“يا نائم وحد الدائم
سحورك يا صائم
اذكر الرحمن في قلبك
قبل أن يفوتك الزمان
يا نائم وحد الدائم”.
كان السعيد من أبناء الحي، من يكون صاحياً ليسمع ذلك النداء الذي يأتي متخللا كل النفوس في رقته العجيبة.
***
فجأة غمزه أحد المصلين المارين بجانبه في قدمه لينتبه من سنته التي حسبها طالت، كانت الشمس قد شملت بعض أرجاء المسجد، نظر إلى المار نظرة ضمنها غضبه له بعد أن أخرجه من حلمه الذي كان يعيشه. خرج من المسجد مسرعاً. ذهب إلى دورة المياه، سبغ الوضوء وعاد إلى المسجد، صلى ركعتين وذهب إلى الواجهة الشريفة، تمتم بكل ما يعرفه من آداب الزيارة، ثم انتقل إلى الروضة الشريفة، أدى ركعتين بنية الزيارة.
***
خرج من باب السلام، تذكر موقع شارع العينية، إنه أمام هذا الباب بالضبط. ذلك الشارع البهي في مثل هذه الليالي بكل حوانيته. ودكاكينه المتداخلة بكل أنواع ما يعرض فيه. بجانبه سويقة، قال لنفسه مستدركاً، انه سوق القماشة، بل جو المدينة، فراحت الصور تنثال على مخيلته.. في حالة وجد لا تنسى لمثل هذه الأيام.
***
أوف.. حرارة الشمس تذكره بحرارتها أيام زمان، التي لا يشعر بحدتها مع انعدام وجود وسائل التبريد الموجودة الآن، تساءل لماذا هذا الحال؟
امتطى سيارته.. كأنه في حالة حلم جميل في ليلة صيف رمضانية لا تنسى.
< عبد العالي بركات