صدرت حديثا للأديب والإعلامي المغربي عبد الرحيم التوراني الطبعة الأولى من مجموعة قصصية بعنوان «نزوات غويا»، وذلك عن دار رياض نجيب الريس للكتب والنشر بلبنان.
وتتضمن المجموعة، التي تقع في 141 صفحة من الحجم المتوسط، عشرين قصة قصيرة، من بينها «الميت الأبكم» و«المديح السفلي» و«ذاكرة الحرب المبتورة» و«أفكار بلا أزرار» و«مدونة الغيلم» و«فيلم جديد للمخرج مايكل مور» و«المشنوق يشرب القهوة في السقف». وفي كلمة على ظهر الغلاف الأخير، يقول الباحث والأديب عبد الصمد محيي الدين إنه «لعل ما يميز عبد الرحيم التوراني عن غيره من القصاصين والروائيين المغاربة، علاوة على سلاسة الصوغ السردي، ذلك التوظيف البديع لعبثية الوجود، داخل قوالب تتخذ من التفكه نسيجا يمتشق المضامين كسلاح ضد كآبة العالم»، مضيفاً قوله إنه: “حتى لا تطغى الكآبة على المد السردي، يوظف الكاتب ما يصح أن نسميه (ما وراء السوريالية) غاية في الحبك التصويري”.
ويضيف أنه «من قصة إلى أخرى، تمخر أقدار الشخوص عباب الأحداث في سياق عجائبي بامتياز، دون أن تفقد مثقال ذرة من مصداقيتها الواقعية»، لذا حق القول بالسهل الممتنع إزاء هذه المجموعة القصصية الذكية المضامين، الزاهية الأسلوب.
عن العنوان:
يتشكل من كلمتين متضايفتين، الواحدة تعاضد الثانية وتزيدها توهج معنى؛ وهما معا يبنيان ركن الجملة الاسمية الظاهر، في ما يظل الركن الثاني مضمرا ومقدرا.
الكلمة الأولى، هي: نَزوة: (اسم).
الجمع : نَزَوات و نَزْوات
اسم مرَّة من نزا / نزا إلى
ثارت في رأسه نزوةُ الغضب: حدّته،
نزوات الشباب: تقلُّباته ،
هو ذو نَزَوات: لا يستقرّ على حال
هوى مفاجئ شديد لشيء ما مثل زيّ أو أغنية أو كتاب أو حلية وسرعان ما تزول نزوات القلب: نزعاته الشديدة وميله القويّ.
أما الكلمة الثانية فهي اسم لشخصية، ألا وهي: غويّا:
اسم رسام إسباني شهير ازدادت شعبيته نتيجة تكليفه برسم الصور الشخصية للنبلاء.
وكانت صوره عبارةً عن إبداعاتٍ فريدة من نوعها وتميز بطريقة رؤيته الأشياء ورسمها على قماش، دون تجميلٍ مصطنع للشخصيات التي يرسمها. اعتبر من أعظم الرسامين الإسبان خلال أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر.
أصيب بالصمم تمامًا في عام 1792، بعد أن عانى من مرضٍ خطير.
فما العلاقة الجامعة بين الكلمتين؟
نسارع إلى القول: إنها الحرية؛ حرية الكتابة وفق منطق عدم الاتباع، بل وفق منطق الإبداع؛ فالإبداع تحرير وتحرر، وإضافة جيدة للمنجز لا تكرارا له. الكتابة في العمل تخلق شكلها الخاص الذي لا ينفلت عن الشكل العام، لكنه لا يكرره.
صحيح أننا سنجد بعض النصوص قد اتكأت على المعرفة المشتركة، لكن بطريقة مختلفة تمكنها من تمرير رسائلها السياسة الخاصة. فنرى السارد في نص “مدونة الغيلم” (ص55) يستوحي كتابة ابن المقفع، وفي نص “أغنام وأرانب” (ص73) يستثمر نكتة معروفة، وهي طبخ القطط على أنها أرانب لوجود الشبه بينهما؛ لكن النص يعمد إلى إعادة تشكيل النكتة وفق قواعد الكتابة القصصية ذات الحمولة السياسية.
عن لوحة الغلاف:
أتت بألوان غامقة دالة على الحزن، وترسم ما يشبه فارسا على فرس، كون الطرفين غير واضحي المعالم، لقد رسما بطريقة سوريالية تميل إلى إثارة شهوة التأويل لدى القارئ
عن المتن.
وأنت تقرأ “نزوات غويا” ستجد نفسك منتزعا من واقعك، ومقذوفا في واقع مختلف؛ هو واقع قريب منك، يكاد يشبه الذي أنت فيه؛ لكنه يختلف عنه؛ إذ يقدم لك ما لا تراه، أو ما تراه لكن، بطريقة مغايرة.
والمتتبع الحصيف لهذه المجموعة القصصية القصيرة سيجد نفسه أمام تجربة قصصية فريدة في معالجتها ورؤيتها، وطريقة بنائها؛ ثيماتها القضايا المصيرية لقاص يمتلك ناصية السرد القصير، حيث النصوص مكتوبة بعفوية وتلقائية بلاغتها في بساطتها الظاهرية النابعة عن جدة في الرؤية والعمق الحقيقي في التقصي.
فالنص الأول “الميت الأبكم” (ص9 ) يتناول قضية الاختطافات السياسية، والتصفيات الجسدية للمعارضين، حيث النظام السائد لا يحب الأصوات النشاز، لكنك حين تقرأه، ستشعر بالمتعة، والمغايرة في التناول.
شخصية النص ستجد نفسها تعيش سلسلة من الأحداث غالبيتها مفروضة عليها، لا دور لها في اختيارها، الدور الوحيد الذي اختارته لنفسها؛ هو نقش شواهد القبر والتفنن في ذلك؛ أما باقي الأحداث، السابقة واللاحقة؛ فهي إكراهية، أجبرت الذات على الاستسلام لها، كونها لا تمتلك وسائل الدفاع، والقدرة على تحصين النفس من أذى الواقع. سلسلة من الأحداث تخرق مبدأ المنطق السببية، وتنسجم وقانون العبث.
ينتقل من حياة السكينة إلى حياة القلق والمعاناة؛ فالشاهدة التي عرضها بعد أن أنجزها، ولم يأت الطالب لأخذها، ستكون سبب انتقاله من حياته العادية، والرتيبة، إلى حياة العذاب. لقد أقبل زوار الليل، وأخذوه بالقوة، أي تم اختطافه، ليتعرض لسلسلة من ألوان التعذيب حتى يقر بذنب لا يد له فيه. هكذا، بفعل حدث بسيط، سيجد نفسه داخلا عرين العذاب، مؤكدا، بذلك، عبثية الحياة، ولا منطقيتها، وتستمد منطقها الغريب من عبثية الحاكم الذي يرى الخيانة قد تأتيه من أقرب المقربين إليه، وحتى من ظله.
تحملنا المجموعة إلى عوالم مغرقة في واقعيتها، وأخرى في لا واقعيتها، وإن استمدت حضورها من هذا الواقع، لكنها تعيد صياغته بما يتوافق ومنظورها إلى العالم؛ إنها نصوص سوريالية تجعل ثيمة الموت محورا لها، من ذلك، النص السابق، ونص”إعدام الجثث ذات الدم الحار” ص137؛ وهما، بالمناسبة، النصان اللذان يحكمان العمل ابتداء ونهاية؛ فضلا عن نص “نزوات فرنسيسكو غويّا”(ص35) الذي صار عنوان العمل ككل، مع تغيير طفيف، يتمثل في حذف الاسم الشخصي للرسام.
وقولنا عن بعض النصوص إنها مغرقة في واقعيتها، لا يعني استنساخها لهذا الواقع، بل إنها تكتبه، أي تخلقه، موهمة بواقعيته، لكونه يخضع لشروط الإبداع، ويقر بشروط الكتابة القصصية، ولا ينفلت من قبضتها، من ذلك نص “القبر الأخير” (ص 135)،
ونص “البيروقراطي والأرستقراطية ” (ص133)؛ إنهما نصان يستثمران تقنية الحوار، ويجعلانها كاشفة لخبايا الشخصيات، وموضحة مواقفها تجاه بعضها وتجاه الحياة؛ إنه حوار ينم عن اختلاف وجهات نظر الشخصيات، ويظهر ما تسعى إلى إخفائه، فضلا عن أن الختم يقود إلى الصدمة التي تعني تخييب أفق انتظار القارئ بتنويره، حيث يكتشف أسباب الصدام أو الاختلاف، أو يقود، بفعل الفهم الخاطئ، إلى مواقف صدامية. ففي النص الأول، نجد النهاية مثيرة للاستغراب؛ فبفعل سوء الفهم والتقدير تم تفسير قول الرجل أنه موجه للذات القريبة من المخاطب بغاية النيل منها، ونسي السامع أن الرجل كان يحدث نفسه؛ فقوله: ما أجهلك؟ كان موجها للنفس لا للآخر، لكن من سمع ظن أنه موجه له، فكان أن نشب العراك: أي نشبت فصول قصة جديدة. أما النص الثاني فقد أتى تنوير القارئ الذي ظل مشدود الأعصاب لمعرفة أسباب الجفاء والخلاف، في السطر ما قبل الأخير؛ إنه ابن ولد السي بوشعيب المخنث. وبذا، رفع الحجر على القارئ، وخرج ممتلئا بالجواب عن سؤاله الذي بقي حاضرا بذهنه طوال عمر القصة.
تجدر الإشارة إلى أن السارد قد أدار الحوار بشكل ديمقراطي، حيث عمد إلى منح الشخصيات المتحاورة الكلام لتعبر عن مواقفها وتوجهاتها، وأفكارها بكل حرية، مدبرة صراعها بطريقة سلمية تنتهي بالاقتناع؛ وهو درس مهم ينبغي أن يتجذر في حياتنا اليومية الموشومة بالعنف بفعل عدم الإنصات. وقد لعب المدرس، رمز التنوير، دورا مهما في توجيه الحوار إلى الجوهر، بدل القشور، كي يتم التطهير ومن ثم قبول الفكرة وبخاصة من لدن بوشعيب بتنازله عن قبره لصالح رحال.
وقد يأتي الحوار مبتورا، أقصد أن طرفا فيه يظل صامتا نتيجة جهله لطبيعة الأسئلة الموجهة إليه، كما ورد في الصفحة 14، فلما صمت المتهم، صرخ المحقق في وجهه ليتكلم ، فالشخصية المحورية لا يد لها فيما اتهمت به، ولم تجد الأجوبة المطلوبة لكونها بريئة من التهم الموجهة إليها، لذا، اتخذت الصمت عن بعض الأسئلة.
كما أن الحوار قد يكون داخليا، حيث تكلم الشخصية نفسها، كما في نص “موت مجنون”(ص 25).
تجدر الإشارة إلى أن سرد النصوص بضميرين اثنين: ضمير المتكلم الذي حظي بأغلبية النصوص، وضمير الغائب، علما أن الضمير الأول قد استحوذ على مجمل النصوص السوريالية، فيما حظي ضمير الغائب بأغلب النصوص الواقعية. وكأن السرد السوريالي يتطلب قدرا من إقناع المتلقي بواقعيته رغم ما يكتنف النصوص من غرابة، وانزياح عن الواقع؛ لذا، اعتمد ضمير المتكلم الذي يوهم القارئ بواقعية الأحداث، فيميل إلى تصديق حدوثها.
إنها نصوص ترحل بنا إلى عوالم مجهولة و فضاءات غريبة تكاد تبدو أنها غير موجودة في كثير من الأحيان نظرا لمفارقتها للواقع السطحي الظاهر للعيان، لكنها تبقى متجذرة فيه عمقا .. سفر مثير ومشوق عبر الزمان و المكان يحفّه الشر والخطر وتحيط به الدهشة والغرابة باستمرار ويكون لقاء الشخصيات مشحونا بالعواطف والمشاعر المتضاربة، ويجعل مواقفها محيّرة تجمع بين الذكاءات الخارقة والقدرات العجيبة.
إنها نصوص ماتعة، ومصوغة بفنية عالية؛ تدعو المتلقي إلى الحلم وتطمح إلى إخراجه من ورطة حياته اليومية وجعله ينشغل قليلا عن التزاماته الروتينية بالتفاعل الإيجابي مع النصوص في غرابتها، والسفر مع محكياتها العجيبة والغريبة. لا شكّ أنّ ضغط الحياة المعاصرة قد أفقدنا لذة الحلم؛ لذلك فالأدب الفانتازي بشكل عام، وبما يوفره من قدرة على إيقاظ الذهن وتحفيز الخيال، يحقق لنا لذة الانتقال إلى عوالم أخرى حيث لا شيء يُشبه عالمنا هذا.
تحمل كتابات التوراني دائما أسئلة وجودية تبحث عن أجوبة، حول الإنسان وقدره في الحياة.
يكتب القاص الموت بماء الحياة، يضاده في مواجهة شرسة تؤكد قوة الإنسان المبدع على المجادلة، ويكفيه انتصارا هذه القدرة على المجابهة؛ إنه يكتب عن الموت لتنشد الحياة إرادتها.
> بقلم: حسن علوي