أصدر المبدع أنس اليوسفي مجموعته “العشق الممنوع” عن مطبعة الخليج العربي في طبعتها الأولى سنة 2017، تتضمن 47 نصا على مساحة نصية تبلغ ستين صفحة.
43 نصا جاء بعنوان من كلمة واحدة غير معرفة، ونصان معرفان بأل، ونصان موصوفان.
تناولت المجموعة قضية الفساد، وجعلته محورها الأساس.
توطئة:
معظم كتاب القصة القصيرة جدا هم ممن بلغوا سن الأربعين، فما فوق. حتى كاد يقر في الأذهان أن من يكتب هذا اللون التعبيري هو من حاز تجربة خصبة في الحياة والكتابة، بيد أن لكل قاعدة، وإن كانت وهمية، استثناءات، ذلك أن مبدعين شباب خاضوا التجربة، وقدموا نصوصا ومجاميع تشوبها تعثرات البدايات، لكنها تشي بالخير، وتنبئ بمستقبل زاهر لهذا الجنس المغري.
عن العمل:
يستقي أنس اليوسفي نصوصه من الواقع العياني، ومما شاهده وجرى أمام عينيه، وكان شاهدا عليه، من مثل الأستاذ الذي فاحت رائحة مغامراته الجنسية مع طالباته، مقابل النقط، ومما سمعه من الناس وتداولوه بينهم؛ يعيد بناء كل ذلك ليصبه في قالب القصة القصيرة جدا، معتمدا على التقتير اللفظي، والتخسيس النصي والتكثيف، وتسريع وتيرة الفعل، واعتماد المفارقة الساخرة، والقفلة أو الختمة المناسبة. نصوصه مشاهد متنوعة، تعبر عن إدانتها للفساد الذي استشرى في مختلف المجالات والحقول، وبدأ يهدد أمن واستقرار الوطن. فلا أحد بمنجى من الكارثة التي سيأتي بها هذا الفيروس الخطير.
لقد رسم لنا خارطة حضور الفساد، في حقل التعليم، وفي الحقل الديني والثقافي والسياسي، كما مس العلاقات الإنسانية، لم يوفر أي حقل إلا ومسه بسمه الجميع.
ولا يخفى على أحد، أن الفساد هو المسؤول الأول والأخير عن جميع كوارثنا؛ من البنى التحتية المتهالكة إلى أزمات الإسكان والفقر والبطالة والتربية والسياسة وغيرها من الأزمات، وهذا الفساد لن تُهدَم أركانه والوطن لن ينصلح حاله إلا عبر فضح الفاسدين ومحاسبتهم محاسبة علنية ليكونوا عبرة لغيرهم.
هكذا، نراه يقوم بإعادة صوغ المتداول والمتعارف عليه بين الناس في قالب قصصي عبر مشاهد حبلى بالمفارقات، جعل القاص شغله الشاغل، ووكده الأساس، فضح الفساد أينما وجد، دون هوادة أو استسلام.
الفساد في قطاع التعليم:
من ذلك، قصة “مريم” ص 60، حيث يعمد السارد إلى انتحال شخصية مريم الطالبة التي تدرس معه، ليكشف عبر هذا الانتحال شخصية الأستاذ الشبقي، حيث يعمد لغاية في نفسه، إلى منح الطالبة نقطة مرتفعة، ولغيرها نقطا أدنى.
ولعل الختمة أو القفلة هي ما يميز هذا النص الذي اعتمد على رقم 18 مشفوعا بعلامة زائد ليحقق بعدين، أولهما: النقطة المرتفعة وغير المستحقة،
ثانيهما: الإشارة خفية إلى البعد الإباحي؛ فتلك العلامة المصاحبة للرقم تشير إلى أن الشريط خاص بالكبار، ويمنع تتبعه من طرف القاصرين؛ وما هذا المنع إلا لكون الشريط إباحي. مما يعني العلاقة الجسدية التي تجمع الأستاذ والطالبة، أو على الأقل، رغبته فيها.
وسيأتي نص آخر، ليؤكد الفساد الذي بدأ ينخر ميدانا ظل الحصن الحصين ضد التلوث الأخلاقي والعلمي؛ إنه نص “الاختبار” ص32، حيث يلمح السارد إلى نوايا الأستاذ، فوضع الالبة المتبرجة في الصف الأخير، ووضع سؤال يتعلق برقم هاتفها لا بالدرس، دليل على البعد الجنسي.
في الحقل الديني:
من المفروض على علماء الدين والخطباء أن يكونوا القدوة الحسنة للناس، وأن يصلحوا ذواتهم قبل غيرهم، وأن يعملوا على تدعيم القيم الإيجابية، بدل السير وراء الشهوات، والإغراءات المادية، وألا يكونوا عونا للظالم، يبررون سقطاته، ويشجعونه على ممارسة القهر والاستبداد، والمعروف أن الاستبداد يفسد سلوك الناس. هكذا، نجد السارد في المجموعة يسلط الضوء على الكثير من الاعوجاجات التي شابت هذا الحقل، واضعا في حسبانه، أن الدين يكون سندا، غالبا، للسلطان، وأن أي انتقاد له هو انتقاد للساسة والسياسيين.
في نص “جهة” ص34، نرى أن رجال الدين يسارعون إلى هدر دم الثائر ضد الحاكم الجائر، وبذلك، يكونون قد ساندوا الظلم، ووقفوا في وجه الحق. وفي نص “ثقة”
ص26، نشاهد حيرة العلماء وخوفهم من السلطان، فقط، لأن السلطان طلب منهم فتوى، والأكيد أنهم سيقدمونها له وإن كانت جائرة، لإرضائه.
أما في نص “ثورة” ص50، فيظهر نفاق هؤلاء بتحيزهم للجهة الرابحة. إنهم لم يقفوا إلى جانب الثورة كفعل تغيير إلا لما رأوا رجاحة كفتهم ضد الرئيس.
ونرى سلوك النفاق لدى بعض هؤلاء في نص “قنوت” ص 43، الرجل المتدين لا يتورع عن إتيان الخبائث: خرج من صلاة العشاء.. رمى جلبابه..توجه إلى الحانة… تذكرت غدا عيد الفطر..
ولا ينسى السارد في غمرة حديثه عن السلوكات المعوجة التي تسم بعض العلماء، من الحديث عن الطائفية المقيتة، معتبرا إياها سما يهدد وحدة وسلامة الأمة الإسلامية، ويبعدها عن القضايا الأساس والجوهرية، كالقضية الفلسطينية، كما في نص “مقاومة” ص25، فأهل السنة بدل النهوض لحماية القدس، وجه عناية أشياعه إلى الجهة غير الصائبة؛ إنها الشيعة، معتبرا إياهم كفارا، وهذا الصراع لن يكون في صالح المسلمين، لأنه يمنح الفرصة لتغول أعدائهم، منتهزين فرصة تشتتهم لربح المزيد من المكاسب.
في الحقل السياسي:
في نص “متمرد” ص45، نجده يسلط الضوء على فئة من الانتهازيين الذين اتخذوا النضال سلما للترقي، مثل بطلنا الذي انتقد الراكعين السجد للسلطان، وحين اشتهر، سارع إلى استثمار رصيده في الحصول على المنصب الرفيع الذي قدم له. الأمر نفسه بالنسبة لشخصية نص “قدوة” ص55، التي سلكت سلوك شخصية مسرحية سعد الله ونوس “الفيل يا ملك الزمان”، إذ بمجرد مثوله بين يدي الحاكم الجائر حتى تنصل من ثوريته معلنا حبه وإخلاصه له.
أما في نص “فتنة” ص22، فقد أبرز ذكاء الحاكم في تثبيت أركان حكمه بتخويف الناس مما يقع في الجوار من قتل وتدمير وخراب.
وإذا كان التفكير في بلدان الاستبداد ممنوعا، فإن فتوى تحريمه جاهزة إذا ما أطلت برأسها، “دهشة” ص24
وتعد الانتخابات مجالا رحبا للفساد، فيها يرتع، وينمو، ويستفحل، كما في نص “ديمقراطية” ص23
في الحقل الأدبي:
ولا يستثني الفساد هذا الحقل، بل يجد لنفسه فيه مكانا، كما في نص “شاعر” ص37، ونص “نصيحة” ص53، ففي النصين معا حضور للنفاق، وهو الأرض الخصبة التي تنبت الفساد؛ ففي الأول يقوم الشاعر المشهور بسرقة نصوص السارد لما عرضها عليه ليقول فيها رأيه؛ وفي الثاني، يسهم هرم القص الوجيز في تشجيع الرداءة، بدل إسداء النصح بالمطالعة والتروي.
في العلاقات الاجتماعية:
في نص “حب” ص52، يتناول السارد قضية الفساد الذي يشوب العلاقة بين الرجل والمرأة، حيث تميل هذه الأخيرة إلى مصلحتها ضاربة عرض الحائط مشاعر حبيبها، غير مبالية بما يكنه لها من حب، فبمجرد ما لاح لها ابن عمها حاملا الجواز الأحمر حتى أعلنت تمردها على الحب، فالمصلحة المادية أسبق. أما في نص
“فاجعة” ص18، فينتقد برودة عواطف الزوجة، واهتمامها بالجانب المادي؛ فبدل أن تشعر بالفاجعة، وتعبر عن حزنها العميق لما حدث، أجهشت بالبكاء على معطفها الجديد الذي تلطخ بالدماء، فالأشياء أغلى من الإنسان.
ولعل من بين أسباب شيوع الفساد في مجتمعنا، منح الفاسد مكانة عليا على حساب الكفاءة، لكونه فاعلا، والفاعل دائما مرفوع، نص “قاعدة” ص59
إضافة إلى غياب العدل، “عدالة” ص57
ولا تبغي المجموعة خلق اليأس في النفوس من خلال إبراز توغل الفساد في المجتمع، بل تبغي المساهمة في إلقاء الضوء عليه، لفهم آليات اشتغاله، ومن ثم محاربته، فالمجموعة مسكونة بالرغبة في تجاوز كل أسباب التخلف، بغاية بناء مجتمع صحي، قوي ومتقدم.
ملاحظات بخصوص العمل:
بالرغم من أن المجموعة قد اعتمدت جملة من الخصائص، خصائص تتلخص في قصر الحجم ، والإيحاء، التكثيف، والنزعة السردية الموجزة، الرمزية المباشرة وغير المباشرة مع اعتماد التلميح بدل التصريح في أحايين معينة و السعي إلى تجريب قول كل شيء في جمل قصيرة موسومة بحركية غايتها توتير المواقف وتأزيم الأحداث في كتابة مبنية على الحذف والاختزال عبر بلاغة الانزياح والخرق الجمالي، إضافة إلى التناص، وخاصة في نص “خطوبة” ص42، حيث تم توظيف القرآن كقفلة أو ختمة، فإن هذا لا يمنع من القول:
إن الكثير من نصوص العمل قد جاءت تقريرية، وبعضها لم يقدم جديدا، ولا يحمل دهشة قادرة على رج القارئ، فنص “نكد” ص29، يخلو من الحكاية والحدث، وكذلك نص “مفسر”
ص46
أما نص “غصة” ص20، فعلى الرغم من تشغيله التوظيف المتوازي، فقد بقي مجرد حكمة وجودية تفتقر للحدث.
ثم إن أغلب النصوص جاءت تقريرية وبحمولة قرائية يتيمة، في حين أن القصة القصيرة جدا تجملها القراءات الموازية، وكلما تعددت زادت قيمة النص وليس مطلوبا من المتلقي أن يعرف بالضبط ما بجوف الكاتب حتى يشارك في بناء النص بشكل مختلف، وهذا الذي يجعلها تختلف عن كل الكتابات الأخرى.. إضافة إلى أن بعض العناوين جاءت فاضحة، كما نص “تسرع” ص21
هي ملاحظات لا تقلل من قيمة العمل، ولا من صاحبه الذي يعد بالكثير؛ وهو قادر على ذلك بدليل فوزه بجائزة محمد غرناط للقصة القصيرة.
بقلم: حسن علوي