تعتبر مهنة النساخة من المهن المساعدة للقضاء إلى جانب المهن الأخرى، مثل المحاماة، والتوثيق العدلي، والتوثيق العصري، والخبراء، والتراجمة، والمفوضين القضائيين، إلا أن مهنة النساخة تمارس داخل المرفق العمومي (أقسام قضاء الأسرة). وتقوم مهنة النساخة على أساس تدوين وتحرير الرسوم والعقود العدلية حرفيا في سجلات المحكمة، واستخراج نسخها منها.
حكم المشرع في إصداره لقانون49.00 المؤطر للمهنة، هاجس فك إشكالات تقنية أفرزها تبني نظام النظائر(إيداع نظير الوثيقة لدى كتابة الضبط والتخلي عن تحريرها في سجلات المحكمة مابين1983ـ 1993)، والرؤية التصورية أن “الناسخ مجرد زمام” حسب أطروحة جامعية، ليخرج مهنة غير كاملة النمو، وتعمل في مساحات التنازع مع اختصاصات أخرى، ومحاصرة وسط حقل من الفراغات القانونية يختلف التعاطي معها من قسم بقضاء الأسرة إلى آخر.
ومن جهة أخرى، فإن للمهنة آثارا جانبية تحتم إعادة النظر في مرجعياتها القانونية وآليات اشتغالها نجملها في الآتي:
– التحرير بخط اليد والبحث التقليدي يؤديان إلى البطء في الإنجاز، وما له من آثار سلبية على المصالح الإدارية للمواطنين.
– تعدد خطوط التحرير وتدحرج بعضها نحو الرداءة، كما أن التحرير اليدوي يطرح إشكالات إسقاطات السهو والاعتذارات والإلحاقات.
– إنتاج كم هائل من الأرشيف الورقي، الذي يعاني غياب الشروط العلمية للأرشفة، والأماكن الخاصة لذلك مما يعزز حمايتها.
– تعدد المتدخلين في استخراج مجرد النسخ يزيد من حدة البطء في الإنجاز.
– البحث اليدوي عبر التصفح لكل عقود ورسوم زمن محدد عن مراجع أصول ضائعة لأصحابها يخل بجوهر التحديث والرقمنة التي شهدها قضاء الأحكام ، فكيف يبت قاض في ملف مازالت الوثيقة، حجة أحد الأطراف، تحتاج إلى أكثر من شهر للبحث عنها بسجلات المحكمة. والخلل نفسه يطول مسطرة التحفيظ ، ويؤثر على الجدول الزمني للمستثمرين من جهة سرعة تصفية الوعاء العقاري من الشوائب لإنجاز المشاريع.
ووعيا منها بالإشكالات الهيكلية للمهنة والمشكلات الفنية والتقنية، قامت الرابطة الوطنية للنساخ القضائيين بالمغرب في 2010ـ أي قبل الحوار الوطني لإصلاح منظومة العدالة بأكثر من سنتين ـ بتقديم مقترح تعديل القانون49.00 وفق النموذج المعتمد في تقديم مقترحات القوانين، طرحنا فيه تصورنا لتجاوز السلبيات، عبر الأرشفة الإلكترونية والمسح الإلكتروني، والإمضاء الإلكتروني، وتوسيع الاختصاص. وتم تعزيز هذا الخيار بعرض قدمته بالمعهد العالي للقضاء بتاريخ 12/05/2016، بندوة نظمها المرصد المغربي للحق في التكوين بشراكة مع وزارة العدل والمعهد العالي للقضاء، حددت فيه الحاجيات التكوينية،إجمالا، للنساخ لدخول مسار الرقمنة والمعلوميات لتحقيق الأهداف الآتية:
– اكتساب مهارات تضمن نجاعة وسلامة الحفظ والتخزين الرقمي، ببناء نظام حفظ مؤمن، متكامل ومطابق للمواصفات القانونية الجاري بها العمل بهذا الخصوص.
– القدرة على تصميم وإنشاء الروابط والشبكات بين مسارات العمل التوثيقي أفقيا وعمودية لتسهيل حصول المواطن على نسخ العقود والرسوم.
وسيرا على نهج الحضور قوة اقتراحية مبادرة، شاركت الرابطة الوطنية للنساخ القضائيين بالمغرب، في جميع ندوات الحوار الوطني لإصلاح منظومة العدالة. وقدمنا مذكرة تتضمن اقتراحاتنا في كل محاورها، ابتداء من التنظيم القضائي إلى آخر ندوة عن مدونة الأسرة مرورا بالسياسة الجنائية واستقلال القضاء وقضاء الأعمال، وتخليق الحياة المهنية… إلى جانب ندوات جهوية. وسجلنا مداخلات بها. كما قمنا ببلورة مشروع ” مهنة النساخة وخيار الإنهاء”، تماشيا مع طرح وزارة العدل آنذاك وخلاصات الحوار الوطني وتوصية الهيأة العليا. إذ في خطوة استباقية لتجنب مفاسد الإنهاء على الممتهنين للنساخة وتخفيف ـ على الأقل ـ الإضرار بمصالحهم المكتسبة، نجمل الخطوط العريضة لمشروع الإنهاء في :
– فتح خيار ولوج متعدد لمهن قضائية وقانونية (ملحقون قضائيون، وباقي المهن المساعدة للقضاء) علما أن من النساخ من سجل دكتوراه، ومنهم من حصل على الماستر وعدد منهم من أصحاب الإجازات في فروع القانون والشريعة والدراسات الإسلامية.
– فتح خيار الولوج لكتابة الضبط وفتح باب التعويض المالي قياسا على المغادرة الطوعية التي جرت في عدد من القطاعات .
– إيجاد مشروع قانون جديد يحمي المصالح المكتسبة للذين اضطروا للبقاء لمزاولة ما تبقى من الاختصاص، والذي يحتاج جهودا معتبرة لرقمنته (الأرشيف الورقي).
وبهذا وضعت الرابطة الوطنية للنساخ القضائيين بالمغرب، وزارة العدل بين كماشتين خلال الولايتين اللتين ترأستهما:
– التطوير والرقمنة وضرورة الحضور الوازن للرابطة فيها
– مشروع الإنهاء شبه الكلي للمهنة وإلزامية الحفاظ على المصالح المكتسبة عبر مسارات الإنهاء .
لكن التغيير المتسرع وغير المؤسس على الأرضية الصلبة لنوعية الإطار التمثيلي للنساخ، وتغيير الأولويات النضالية من الضربة المزدوجة بمشروعين إلى الالتفاف حول “مطالب مستعجلة”، وتجاهل تراكمية المسار النضالي ونقطة الارتكاز التي وصل إليها، فتح نوافذ إغاثية للوزارة لتمطيط وقت بدل الضائع لإنهاء المهنة، بتحييد ممنهج وسلس للإطار التمثيلي عن سياقات تنزيل الإجراءات العملية للإنهاء شبه الكلي، والتي تجري على قدم وساق. فمسودة مشروع قانون التوثيق العدلي، لدى مديرية الشؤون المدنية بالوزارة، رغم أنه مشروع فهو يعكس رؤية تصورية للمآل وتعززت مضامينه بنقاشات الحوار الوطني ـ فتح باب ولوج النساخ لمهنة العدول بالإعفاء من المباراة فقط لكل من قضى سبع سنوات في النساخة -، ثم إن مقتضيات قانونية بمشروع القانون نسخت، وطبقا لآخر مادة به، مقتضيات قانون49.00 المتعلق بالنساخة، حيث أن الرقمنة عموما والعقد الإلكتروني، يجهز بشكل كبير على اختصاص النساخ، إضافة إلى أن النصوص التنظيمية التي تثقل كاهل مشروع قانون التوثيق العدلي تسفيرا لمقتضيات مهمة عن النقاش بالمؤسسة التشريعية والمتابعة العمومية إلى سراديب المراسيم الوزارية، ستعمل عملها بمزيد من التحجيم المميت لمهنة النساخة، بهذا صدق كل مسؤول صرح أن الوزارة لن تمس قانون مهنة النساخة بسوء، وبالتالي يتحقق مطلب البعض ببقاء المهنة وقانونها كما أراد بعضنا أيضا تراثا وطنيا ينتظر نقله إلى مثواه الأخير.
انتهى الحوار الوطني بكل خلاصاته، وصدر الميثاق خاليا من أي إجراءات ملزمة تخص مهنة النساخة، ففي الوقت التي كنا بمكتب الرابطة نوجه البوصلة للنضال من أجل الأولى، كان البعض يحرك في اتجاه النضال من أجل الأشهى له. ويعتبر بعض آخر النضال في مجال طرح البدائل والمقترحات برؤية استشرافية، نضال منصات لا يجدي نفعا.
إن أي تأخير في تحديد جدولة زمنية لخيارات الإنهاء، أو التجديف عكس التيار يأتي على حساب التقدم العمري للنساخ، مما يقلص فرص حماية الحقوق المكتسبة، ويضيق هامش الخيارات المفتوحة. فقد مضت ثلاث سنوات على تاريخ الجدول الزمني بميثاق الإصلاح، وما يزيد عن ثماني سنوات عن تاريخ تقديم مشروعنا للتطوير والرقمنة، فهل النصوص القانونية التي ستطول إنهاء مهنة النساخة بكل أبعاده ستكون بأثر رجعي يحمي الحقوق المكتسبة، أم أنها ستكون سكاكين “ستخشقج” حاضر النساخ ومستقبلهم؟
بقلم: ذ.عزيز المردي*
*رئيس سابق للرابطة الوطنية للنساخ القضائيين
عضو الهيأة الوطنية لإصلاح منظومة العدالة