تواصل الحرب العالمية الأولى إلهام الكتّاب في الغرب، الثانية أيضا، فيما تجذب حروب أخرى كتابا وسينمائيين لإعادة صياغتها بمنظورهم الخاص. بالنسبة إلى لورنس كامبا الأستاذ المحاضر في الأدب الحديث في جامعة باريس الثانية عشرة فال دو مارن، فإن الحرب تفعل ذلك «لأنها تحمل تأثيرات خاصّة ودوافع وأسئلة ومناخ فهي أكثر من مجرّد بيئة تاريخية».
تجعل الحرب من يعيشها يبحث عن طريقة مناسبة سريعة للتعبير عن فجيعته، يكتب أو يرسم أو يوثق بهاتفه ما يحدث أمامه، بدون الغوص بعيدا في أسباب الحرب، وما تحدثه من تغيرات عميقة في النفس البشرية، لقد سجّل الأدب منصة سباق مرعبة مع الموت، عاشها أغلب كتاب الحربين العالميتين، ولعلّنا لم نفهم جيدا ذلك السباق الغريب بين بطلين لا يتساويان في طبيعة التكوين، وفي القدرات والإمكانيات، فالكاتب غالبا ما يكون كائنا هشًّا سريع العطب، والموت قدر يوقع نهايته متى شاء.
لقد بدت تلك الأعمال التي رأت الحرب ووصفتها من قلبها، ما لم يره آخرون كتبوا بعدهم بسنوات، حين خيمت الحرب العالمية بكل أثقالها، ودرمت المشهد الأوروبي كله، لتعيد صياغته بطريقة مختلفة. نحن القراء في الشق الآخر من العالم، لم نتأثر كثيرا بما كتب، فتلك الحرب كانت حربهم، إلى أن انفجرت حربنا، وظهر أدب الحروب بالحرف العربي والرؤية العربية المختلفة. قارئ رواية «فرنكشتاين في بغداد» سيعرف كم ساهمت الحرب في بناء نص أحمد سعداوي، وكم عبثت بمخيلته، لا لتنهار دعاماتها، بل لتبقى سليمة، وتتأقلم مع حجم الجريمة الحربية التي نسفت العراق. رواية مرعبة، لا تزال تحقق نجاحات متواصلة، وقد ترجمت لأهم اللغات العالمية، أمّا كاتبها فقد عظمت مهمته، وهو يحمل وجعه البغدادي ويضعه على طاولة الإنسانية ويشرحه.
بالطبع رأى القارئ في الرواية قضاياه، ومعاناته من الإرهاب والعنف والتطرّف، من خلال شخصيتين مهمتين هما هادي العتّاك ولعبته البشرية الغريبة التي كوّنها من جثث القتلى، وأطلق عليها إسم «الشّسْمَهْ» أي الذي لا اسم له باللهجة العراقية، والتي فجأة تصبح حقيقة، وتقرر أن تنتقم من كل قاتل تسبب في قتل صاحب أحد أجزائه. رواية تعيدنا إلى قصة «فرنكشتاين» الأصلية، لكن ما أروع المخيلة البغدادية وهي تبعث الروح في شخصية قديمة لتربط بين عالمين مختلفين زمنيا وثقافيا وتاريخيا، لكن بمعطيات جد مختلفة، لقد ألهمت الحرب الكاتب العراقي ببطل مختلف، ليس طبيبا سويسريا كما في رواية ماري شيلي التي نشرتها منذ مئتي عام، ولكنه بائع عاديات في حي شعبي، بطل يشبه الطبقة المسحوقة في عالمنا العربي، ولا يبحث عن الابتكار، بقدر ما يبحث عن فهم أسباب وجوده على تلك الشاكلة، لقد مثّل الكاتب من خلاله بشكل مبتكر صورة للجثث عائدة لمحاكمة قاتلها. مسرحة الحرب وكتابتها وفق معطيات أدبية وفكرية، تقودنا بالضرورة إلى معرفة عميقة لمختلف التغيرات التي تحدثها في النفس البشرية، إنها ليست مجرّد حدث تاريخي ينتهي، إنه بداية لطريقة تفكير مختلفة، استمرار للخوف، ومهمّة صعبة لتجاوز الفقدان، وترميم متعب لأطلال الداخل، وتأثيث جديد لكل الأماكن التي شُوهت، بما في ذلك، تشوه السلوك والأخلاق.
عاش كُتّاب كثر صمتا مريبا خلال الحروب، وقد قيل إن ما يكتب خلال الحرب لا قيمة له، فقد أدرج تحت عناوين مختلفة قللت من قيمته، فيما ذهب البعض في تفسيراتهم إلى أن البقاء على قيد الحياة أهم من الأدب بالنسبة لكاتب يعيش في قلب الحرب، وأن ما قد يكتبه لا يتعدّى آثار شخص يقول «أنا ما أزال حيا» فكيف يستهان بعبارة بهذا الحجم؟
في السنة الماضية عاش جمهور الأدب ما يشبه احتفالية واسعة للتمعن في قرن من الزمن بعد أول حرب عالمية، وقد أُخرِجت الأعمال التي غطّتها أتربة الحروب ورمادها إلى العلن، فكان أن عاش القارئ تجربة فريدة في اكتشاف تلك الحقبة المقيتة، كما تبين كم كان المنظرون مخطئين في اعتبار الحرب حقبة صمت أدبية، لقد كانت غزيرة بكل أنواع النصوص بعد أن تم تصنيفها، بين شعر، وقصّة، وشهادات، ومقالات ومذكرات ورسائل ذات أهمية عظيمة، خاصة تلك التي كتبها جنود لذويهم من جبهات القتال، لأنها أكثر النصوص صدقية في نقل تلك الرغبة الدفينة لترك السلاح والذهاب بعيدا عن الحرب، كثير منهم تساءلوا آنذاك، لماذا يتربص بهم شبان مثلهم، ويتربصون بهم لقتلهم؟ أي جنون إنساني ذاك الذي وظفهم فقط لقتل الآخر؟ كثير منهم أدركوا الحكمة من الحياة في اللحظات التي كانت فيها القنابل تهوي على حدود مخابئهم وهم فاقدين للسمع تماما، وسط نيران تأكل الجثث الممزقة، كانوا يرون الجحيم أمامهم، ويتمنون لو أن الحرب تنتهي فقط ليعانقوا أحبتهم ويتوبوا نهائيا عن فتح جبهات جديدة للحرب.
نقرأ حكم الحياة كلها في كتاب جميل اسمه «الأمير الصغير» لكاتبه أنطوان دي سانت إكزيبيري، الذي عمل طيارا مع شركة بريد خلال الحرب العالمية الثانية، وهو قصة فلسفية تصلح لكل الأعمار منذ الولادة حتى الموت، قصّة فريدة، برقت في رأس كاتبها الذي أبدع في أدبه كاتبا عن الحروب وبشاعتها، ولكن أميره الصغير، لا يزال يحمل رسالة سلام ويطير بها من بلد إلى بلد، يفتن بها الأطفال والكبار، وقد كانت تلك خلاصة ثمينة، ضمنها في كتابه، كميراث للإنسانية جمعاء، بعد تجربته الفريدة في قراءة الحروب ومعرفة الذات البشرية. تخطو الحرب خطوة كبيرة في عالمنا العربي، تصدر سنويا أعمال توثّق للحرب وأخرى تذكرها، إذ لا يكاد أي عمل جديد يصدر مؤخرا عن دور النشر العربية، إلاّ ويحمل بصمات للحرب، وقد قرأت لخالد خليفة عمله الروائي «الموت عمل شاق» التي أبدع فيها وهو يصف معاناة جثة لبلوغ قبرها، وهو أقسى ما يمكن أن تخترعه الحرب، وأقوى ما يمكن أن تبتكره للتنكيل بمواطن غادر الحياة. تلك الرّحلة بين دمشق والعنّابية، هي كل ما فعلته الحرب من تنكيل بالأحياء والأموات، وهي رحلة لها من الأبعاد ما يزيد من كثافة قسوتها، فبين الحياة والموت موت يتكرر بين لحظة وأخرى، وهذا ما يراه الكاتب ويعيشه، ويعبّر عنه، إن الموت مضاعف في المخيلة الأدبية والفنية، ولا شك في أنه يتضاعف مرات عدة حين يقرأ أيضا.
ومثل رواية خليفة، هناك نصوص كثيرة، من سوريا والعراق والجزائر وليبيا… تكشّر عن واقع في قمة الأسى، يتسلل بهدوء بصيغته اللغوية، ويستقر إلى الأبد في ذاكرة القارئ، حينها فقط تتضح جيدا صور نشرات الأخبار المقتضبة، وتنكشف الحقائق على مصراعيها… إنّه الأدب، حرب أخرى ضد الحرب.
> بروين حبيب
الأدب يقاتل الحرب
الوسوم