لم يقنع خبراء الغرب برسم الخطط المستقبلية لتحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والصحية وغزو الفضاء وابتكار الوسائل التقنية المتطورة وغيرها من الفتوحات العلمية المذهلة، بل صاروا يتوقون إلى تحقيق ما لم يحققه كلكامش، ونعني به الخلود.
كان مسعى الملك السومري في الحصول على العشبة الأبدية أسطورة مغزاها أن الخلود للآلهة وحدها، وأن الإنسان يمكن أن يبلغ الخلود بوسائل أخرى كالحكمة والعمل الصالح والبناء والتشييد، تماما كخرافات إكسير الحياة الدائمة، وينبوع الشباب وما إلى ذلك من حكايات تبيّن كلها أن قدر الإنسان أن يمر من ضعف إلى ضعف، من الولادة إلى الشيخوخة، ثم يُردّ إلى التراب، ولكن المساعي الحالية واقعية، وقد بدأ الاشتغال عليها منذ أعوام في كل من روسيا والولايات المتحدة الأميركية، لجعل إنسان الغد مخلوقا ربانيا خالدا، ونشأت حركة فكرية تتصور نهاية الإنسان في طوره الحالي، وظهور ما يسمونه «ما بعد الإنسان” (post-humain) أو الإنسان الانتقالي (transhumain).
تلك الحركة التي عرفت بالأنسنة الانتقالية (transhumanisme) تدعو إلى استعمال العلوم البيوتكنولوجية والتقنيات الحديثة لتطوير القدرات الجسدية والذهنية لدى البشر، وتَعتبر أن بعض ملامح الوضع البشري كالإعاقة والألم والشيخوخة أو الموت غير مرغوب فيها.
هذا المصطلح الذي يرمز له بـ «H+» أو «h+» صار يستعمل كمرادف لتحسين الوضع البشري، ورغم أن أول استعمال له يعود إلى عام 1957، فإن دلالته لم تتضح إلى في الثمانينات، عندما بدأ بعض خبراء الدراسات المستقبلية الأميركان يهيكلون ما صار يعرف بحركة الأنسنة الانتقالية، ويتوقعون أن البشر يمكن أن يتحولوا إلى كائنات ذات قدرات غير معهودة، فيقطعون بذلك مع الإنسان العاقل،(homo sapiens) ليدشنوا مرحلة «ما بعد البشر” (posthumains).
في كتاب «الإنسان الإله” (homo deus)، يعتقد يوفال نوح هراري أستاذ التاريخ بجامعة القدس أن الثورة البيوتكنولوجية ستضع حدّا لوجود «الإنسان العاقل” (homo sapiens)، وسوف تعوّضه بـ”ما بعد الإنسان”، أي كائن أشبه بـ”سايبورغ” (cyborg)، ذلك الذي ابتكرته روايات الخيال العلمي الاستباقية، وهو مزيج من مكونات عضوية وبيو-ميكاترونية، قادر أن يعيش إلى الأبد.
ويتوقع هراري أن «الإنسان العاقل” سوف ينتقل بعد نحو قرنين من الزمان إلى مستوى أسمى، قريب من الألوهية، سواء بفضل التحويرات البيولوجية، أو الهندسة الوراثية أو خلق كائنات سايبورغ نصفها عضوي ونصفها الآخر غير عضوي. وسوف يكون ذلك أكبر تطور بيولوجي منذ بدء الخليقة، ولكن سوف يكون إنسان المستقبل مختلفا عنّا اختلافَنا عن الشمبانزي. وهذا ليس من الخيال العلمي، فخبراء وادي السيليكون، قطب التكنولوجيا الأميركية، يعتقدون أن ذلك ممكن، ويمرّ عبر حقن عدة روبوهات بالغة الدقة في دم الإنسان تكون مهمتها تجديد الخلايا وإصلاح كل خلل، أو زرع حاسوب مع جملة من الأدوات الدقيقة في جسم الإنسان تشحنه بطاقات لم يعرفها البشر. ولكن ذلك سيكون ذا تكلفة باهظة لن يقدر عليها سوى الأغنياء كما يقول هراري، ما يعني أن الخلود سيكون من نصيب الأغنياء وحدهم، بينما لن يتجنب الفقراء نهايتهم المحتومة.
يذهب بعضهم إلى القول إن هذه الحركة تندرج ضمن تيار فكري يرجع عهده إلى العصور القديمة، وملحمة كلكامش الباحث عن الخلود، أو مساعي البحث عن ينبوع الشباب وإكسير الحياة المديدة، وكل الجهود التي بذلت لمنع الشيخوخة والموت. فيما يعتقد بعضهم الآخر أن أصولها تعود إلى النهضة الأوروبية وفلسفة الأنوار مع كوندورسي، ثم بنجامين فرانكلين الذي كان يحلم بحياة معلقة، وتشارلز داروين الذي طرح احتمال ألا تكون البشرية في طور نهائي بل هي مقبلة على طور جديد.
وفي مطلع الستينات، طرح الأميركي مارفن مينسكي، المتخصص في علوم الإدراك والذكاء الاصطناعي، مسألة العلاقة بين الذكاء البشري والذكاء الاصطناعي، وهي العلاقة التي ستكون من الثيمات المركزية للأنسنة الانتقالية، مثلما ظهرت اجتهادات أخرى هنا وهناك، ولكن بناة هذا التيار الأوائل كانوا يلتقون في جامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس، التي ستصبح المركز الأساس لفكر الأنسنة الانتقالية.
الثابت أن هذه الحركة تقوم على مقاربة متعددة الاختصاصات تسعى إلى تقييم إمكانات تجاوز حدود الإنسان بفضل المستحدثات التكنولوجية. فلطالما سمح التطور التقني بتعزيز قدرات الإنسان وإمكاناته من العجلة إلى السيطرة على الطاقة الذرية مرورا بالمطبعة.
على المستوى الفلسفي، انضافت الحداثة إلى تلك الإمكانية التي اصطلح عليها بالتقدم، ولكن مع اختلاف جوهري في ما يتعلق بالأنسنة الانتقالية، لأن العلاقة بالتقنية أخذت منعرجا آخر مع التكنولوجيات الحديثة، لكونها أكثر قربا من جسد الإنسان. ففي الجمع بين البيولوجيا والرقمية زالت الحدود بين الإنسان والأحداث العارضة، ما سمح للإنسان بأن يكون في تناغم وانسجام معها، فرديا أو جماعيا، عبر الإنترنت. وهو ما طرح أسئلة علمية واجتماعية وأخلاقية جديدة، بعد أن أصبح الإنسان قادرا على التدخل تقنيا على تطوره، لا على المستوى الفردي فقط، وإنما أيضا على مستوى النوع، فما عادت الغاية تعزيز قدرات الإنسان وإمكاناته، بل أضحت إعادة النظر عقلانيا في مفهوم تحسين النسل، لأن «التطورات التقنية تفرض علينا التساؤل عمّا نريد أن نفعل بالكائن البشري ولماذا”، ولكن تلك المخاطر لا تشغل بال الحركة التي تتحلى بنوع من التفاؤل غير المسؤول.
أضف إلى ذلك أن هذا الجَيَشان الأيديولوجي له علاقة باقتصاد وادي السيليكون ونموه الصناعي، وقد رأينا مدى احتفاء أرباب «غافا”، «GAFA” (غوغل، أبل، فيسبوك، أمازون) بطروحات هراري، واستقباله بحفاوة للاستفادة من رؤيته المستقبلية، وقد صاروا، بما كدّسوه من أموال طائلة في ظرف وجيز، يحلمون بسيادة العالم، وتوجيهه الوجهة التي يريدون لأغراض ريعية.
ولو أن بعض المنتمين إلى هذه الحركة يفندون ذلك، فالإنكليزي أوبري دوغراي صاحب مؤسسة «سانس»/”SENS” (Strategies for Engineered Negligible Senescence) يؤكد أن الغاية ليست تحقيق الخلود، وإنما القضاء على الأمراض التي ترافق الشيخوخة، فهو ينظر إلى جسد الإنسان كسيارة تحتاج إلى الصيانة المستمرة كي يدوم عمرها، وتكون دائما في وضع أحسن.
أما الفيلسوف البلجيكي جلبير هوتوا فهو يعتبر في كتابه «الفلسفة وأيديولوجيات ما بعد الإنسان والأنسنة الانتقالية” أن الإنسان سايبورغ بالطبع، أي هو كائن تقني، ما يسمح له بإخراج الإنسانية من الوضع الحيواني، وأن التقنية تسمح لنا بأن نحسّن جنسنا لأن الطبيعة لم تثبت على حال من الأحوال. وفي رأيه أن القضاء على الآلام والموت حق فردي وجماعي، وأن رغبة إدراك الخلود ليست ثمرة ذاتية مفرطة، بل هي إعراب عن رغبتنا الطبيعية في البقاء.
كذلك جان ميشيل بينيي، أستاذ الفلسفة بالسوربون، فقد تخيل في كتابه «غدا، ما بعد البشر” ما سوف يكون عليه الإنسان في المستقبل، وذكر أن اصطدام الأجيال لن يكون بالشكل الذي نخشاه، في ظرف بدأنا نتعود فيه على ضياع المعالم التي فرضتها بنى القرابة في المجتمعات القديمة، وقد باتت في نظره بالية ولاغية.
أي أن أنصار هذه الحركة، ومعظمهم ملحدون أو مادّيّون، يتماهون مع الأيديولوجيا النيوليبرالية في انتهاك الحدود الأخلاقية التقليدية. تلك الأيديولوجيا التي تهدف إلى تعزيز الحقوق الفردية وتحرير الأعراف بشكل مستمر، كان من نتيجته تحلل القيم التقليدية، والتحول المجتمعي العميق، لكونها تهدم عددا من الأسس الثقافية للمجتمعات التقليدية، دون تقدير العواقب. وهو ما أكده المجري مارك هونيادي، أستاذ الفلسفة في الجامعة الكاثوليكية بلوفان البلجيكية، فقد صرّح أن الأنسنة الانتقالية لها علاقة وثيقة بالسوق، وتشجع على استهلاك المواد التقنية والعقاقير، وأن سعيها إلى تحسين الإنسان وتطوير قدراته إنما الغاية منه زيادة بيع التكنولوجيات المتطورة، فهي تهتم بالسوق لا بالإنسان، وتعمل على اقتحام مجالات لم يسبق لها اقتحامها، أي الجسد. وفي رأيه أن يوتوبيا الأنسنة الانتقالية تحرص على المصالح الاقتصادية أكثر من حرصها على الإنسان وأوضاعه في شتّى الأعمار.
وصفوة القول إن حلم الخلود الذي راود البشر منذ القدم يجد هنا صياغة جديدة، يعتقد واضعوها أن الإنسان إذا ما انصهر في البيو-إعلامية سوف يبلغ الخلود ويتساوى مع الآلهة.
في كتاب «المغامرة، الضجَر، الجِدّ” الصادر عام 1963، كتب فلاديمير ينكيليفيتش يقول «لو صار للإنسان زمن لا حدود له، فسوف يبقى عقيما، ولن تلبث العملية أن تستسلم إلى سلبية نباتية يطلق عليها تجوّزًا عبارة ‘خلود’. في هذا السياق، سيكون أبشع عذاب للإنسان لو قُضي عليه أن يعيش أبدا”.
> بوبكر العيادي *
*كاتب من تونس