أصبح التكوين المهني موضوع نقاش مجتمعي ساخن منذ أن أثار جلالة الملك مسألة ضرورة إعادة تأهيل هذا القطاع ليواكب متطلبات مغرب المستقبل، ودعا الحكومة إلى الانكباب على صياغة مقترحات ثورية في هذا المجال. وهي المقترحات التي نتذكر أن الحكومة تلكأت كثيرا في الإفراج عنها، وطلبت المهلة بعد المهلة لأجل ذلك، مما رجح فرضية عدم امتلاكها لرؤية واضحة مسبقة لهذا القطاع، وهذا يؤكد مرة أخرى الأعطاب المزمنة للحياة السياسة التي تجري على أساس شعبوي، وليس على أساس المفاضلة بين البرامج التي تعدها الأحزاب لكل القطاعات من خلال نقاش مستفيض ومستبصر ومرقم خلال السنة الانتخابية يجري بين النخب الطامحة لتسيير دواليب الحكومة.
ويبدو من هذا الاختبار أن لا الأغلبية ولا المعارضة تعولان على نفسيهما لأجل ممارسة الحكم أو الاستعداد له. الأولى تنتظر الفرج من تكنوقراط الوزارات الذين يكونون تحت إمرتها وغالبا ما تستمر في تنفيذ البرامج السارية نفسها دون لمسة سياسية منها، بينما أغلب أحزاب المعارضة لا تمتلك بدورها حكومة ظل حقيقية لها كما هو الشأن في الدول المتقدمة، فتضطر أن تستثمر لخطابها فقط في البلاغة والإنشاء وكيل النقد، ولا شيء طبعا أسهل من النقد.
وخطة التكوين المهني الذي اضطرت لها الحكومة بأمر من صاحب الجلالة تثبت أنه لولا الطلب الملكي ما كانت الحكومة لتنتبه لهذا الملف الحساس، رغم أنه أصبح في أزمة مستفحلة منذ أن كف عن التجديد والاجتهاد، وتحول إلى تكوين آسن، وإلى منتج إضافي للبطالة شأنه شأن التعليم الجامعي.
الآن، وقد تقدمت الحكومة بمشروع تقول إنه مجدد وتحديثي لمنظومة التكوين المهني، نعتقد أن عليها أن تتحرى في إنجازه المبادئ التالية، حتى نتفادى اجترار النتائج نفسها المخيبة للآمال:
أولا: الالتزام بشكل فعلي ومستمر بالإطار الفكري الذي جرت فيه صياغة الخطة، والذي لخصه جلالة الملك في ضرورة التقيد بعناصر الواقعية، والصرامة، والبراجماتية، أو بالأحرى الفاعلية، لجعل تكويننا المهني مواكبا للعصر التكنولوجي الحالي، مستجيبا لأولوياتنا وتطلعاتنا كمغاربة، ومتناغما مع السوق الوطنية والدولية. أي خلق جيل جديد وعصري من التكوينات المهنية يمكن شبابنا من أن يكون قادرا على المنافسة سواء بقي في وطنه أو حلق في السماوات المفتوحة للعولمة. وكل هذه الأهداف هي أهداف متسارعة التغير من حيث الفحوى مما يتطلب عملية تحيين وتقييم دورية دائمة ومواكبة.
ثانيا: إذا كانت الأهداف واضحة جدا على الأقل من ناحية عناوين الإصلاح، فإن غير الواضح هو الطريق إليها… بمعنى آخر: التفاصيل، ولذلك، فالحكومة لكونها تتوفر على الإدارة وعلى الدراسات وعلى الأطر التكنوقراطية، تستطيع أن ترسم معالم هذا الطريق بشكل أوضح. فعندما تقول تحديث المناهج البيداغوجية عليها أن تحدد ما المقصود بذلك، هل ستعتمد على التكوين بالوسائل السمعية البصرية أم ستطور معامل ومختبرات داخل مؤسسات التكوين المهني تكون مرتبطة بسوق الشغل أم ستعقد شراكات مع المؤسسات الإنتاجية ليكون التكوين في الميدان؟
ثالثا: من المعلوم أن سوق العمل يفرض الآن جوا تنافسيا لم يسبق له مثيل، يركز على عنصري الجودة والكلفة. أي أعلى كلفة بأقل جودة. وأصبحنا نعيش في عالم مفتوح يتم فيه ليس فقط تداول السلع بل الكفاءات أيضا. ولم تعد الدول السائرة في طريق النمو تعاني من هجرة الأدمغة فقط بل من هجرة أصحاب المهن الذين أصبحوا يمثلون النزيف الحقيقي.
ليس مهما الآن ما تعرفه، بل المهم هو هل تعرف أن تنجز ما تعرفه. المهن شديدة التحول ودائما هناك طفرات جديدة، مما يتطلب مرونة كبيرة على المستوى المهني للتأقلم. ولذلك علينا أن نوفر تكوينا مهنيا قادرا على التأقلم، أي تكوينا مهنيا يتضمن بالخصوص جذعا عاما صلبا يتيح دائما للعامل المهني أن يعود إلى تحصيله المهني الأولي وينطلق في اختصاص جديد أضحت تتطلبه السوق.
لم يعد ممكنا اليوم التخصص بشكل نهائي، فأنت دائما مضطر إلى أن تغير تكوينك وأن تشتغل في مهن متعددة. وخبراء المستقبل يرون أن أغلب المهن المقبلة التي ستكون سنة 2030 لم تولد بعد ولا نعرف الآن طبيعتها ولكن يمكن تخمينها من قبل الاقتصاديين وخبراء المعرفة والصناعة والمختصين في المستقبليات.
ولذلك نرى أنه نظريا يمكننا الآن القيام بالخطوات التالية:
أولا، شئنا أم أبينا فالتكوين المهني مرتبط بسوق الشغل ليس وطنيا فقط بل دوليا أيضا. وبالتالي يجب أن تكون لدينا معرفة كافية باتجاهات السوق العالمية واحتياجاتها على المدى المتوسط والبعيد. وهذا مرتبط بنجاعتنا الدبلوماسية وشراكاتنا الإستراتيجية على المدى البعيد وعلاقاتنا الدولية، ولذلك لا بد أن يكون لنا مرصد يستطيع أن ينجز لنا هذه المهمة يضم خيرة العقول، فالتعرف على اتجاهات سوق الشغل يدخل حاليا ضمن الأمن الاستراتيجي للدولة.
ثانيا، يجب أن نركز على تكوين لا ينصب على تعلم المهارة المطلوبة الآن، بل ينصب على طرق تطوير المهارة بشكل فردي من خلال تنمية ملكات الابداع والابتكار والخلق حتى في التكوين المهني للتعامل مع تحديات المستقبل. وهذا يتطلب من ضمن ما يتطلب تعلم اللغات الأجنبية واتقانها والانفتاح بشكل كلي على المعلوميات بالنسبة لكل الشعب.
ثالثا، القدرة على التعرف على الموهوبين في التكوين المهني وإتاحة الفرصة لهم للالتحاق بالتعليم العالي لأجل مشاريع أو طموحات ابتكارية بعينها.
وفي الأخير، إن هذا الورش هو ورش المستقبل. ونحن الآن قد نكون وضعنا رجلنا في أول الطريق كي لا نتخلف عن بقية العالم، ولكن البداية تكون أولا بتغيير الموقف النفسي للمغاربة من التكوين المهني وإعادة الاعتبار له بوصفه مجالا للإبداع الشخصي وتحقيق التنمية للجميع. لا ينبغي أن ننشغل بالبنايات وإعدادها، فالحكومة تقول إنها ستشرع في فتحها تدريجيا سنة 2021، بل بالروح التي ستسري فيها وبجوهر التكوينات التي ستوفرها وقدرتها على دحر اليأس والإحباط لدى الشباب المغربي وتسليحه بالمهارة القادرة على التجدد باستمرار.
> خالد فتحي