تعتبر الانتخابات أهم العناصر التي يرتكز عليها النظام الديمقراطي، الذي يقوم في جوهره على مبدأ اختيار الحكام، وبطبيعة الحال فإن الانتخابات تشكل الوسيلة الأبرز في هذا الاختيار. ” فالانتخاب يمثل للديمقراطية، ما يمثله الأوكسجين للكائن البشري.
ومن أجل ضمان احترام الانتخابات للضوابط القانونية لابد من إقرار الرقابة القضائية عليها كواجب من واجبات الدولة في كل مجتمع يعمل على التموقع داخل إطار دولة الحق والقانون.
والجدير بالذكر بأن الرقابة القضائية على صحة الانتخابات تنصب على كافة مراحل عملية الاقتراع سواء ما تعلق منها بالقيد في اللوائح الانتخابية ، أو بعملية الترشيح وكذلك بإجراء عملية الاقتراع ، وذلك في إطار التطبيق السليم للنصوص القانونية التي أطر بموجبها المشرع مختلف أصناف الانتخابات، التي تعرض مجموعة من المنازعات الناشئة عنها أمام القضاء الإداري.
وإن القاضي الانتخابي، بحكم كونه قاضيا إداريا، فإنه مطالب بالتعامل الإيجابي مع النصوص القانونية بحيث لا يقف عند المدلول الحرفي لصياغتها، خاصة إذا ماشابها بعض الغموض أو الالتماس.
غير أن القول بذلك، لا يحول دون الإشارة إلى أن الاجتهاد القضائي ينبغي أن يبقى خاضعا للضوابط العامة التي تؤكد على أنه لا مجال للاجتهاد في ظل صراحة النص القانوني الدقيق عندما لا يحتاج إلى أي تأويل.
وإن جرد العمل القضائي في مجال المنازعات الانتخابية يكشف التراكم الذي كونه القضاء الإداري المغربي، وتنوع الحالات التي عرضت عليه، والحلول المتميزة التي توصل إليها للبت في الطعون المعروضة عليه وخاصة ما تعلق منها بالطعن في أهلية الترشح للانتخابات.
ومن خلال هذه الدراسة سوف نعمل على محاولة استقراء طبيعة الرقابة التي أجراها القاضي الإداري المغربي على المنازعات المتعلقة بالأهلية الانتخابية، ومناقشة بعض الاجتهادات الصادرة عنه، وتحليل نوعية القراءة التي أعطاها للنصوص القانونية الصادرة عن المشرع.
أولا: الإطار العام للأهلية الانتخابية:
لقد أولى المشرع المغربي أهمية خاصة للأهلية الانتخابية من خلال مجموعة من النصوص القانونية من بينها الظهير الشريف رقم 83-97-1 الصادر في 23 من ذي القعدة 1417 الموافق ل 2 أبريل 1997 بتنفيذ القانون رقم 97-9 المتعلق بمدونة الانتخابات، والظهير الشريف رقم 173-11-1 الصادر في 24 من ذي الحجة 1432 الموافق ل 21 نونبر 2011 بتنفيذ القانون التنظيمي رقم 11-59 المتعلق بانتخاب أعضاء مجالس الجماعات الترابية، والظهير الشريف رقم 171 الصادر بتاريخ 30 ذي القعدة 1432 الموافق ل 28 أكتوبر 2011 بتنفيذ القانون رقم 11-57 المتعلق باللوائح الانتخابية العامة وعمليات الاستفتاء واستعمال وسائل الاتصال السمعي البصري العمومية خلال الحملات الانتخابية والاستفتائية.
ولقد تناول المشرع المغربي من خلال هذه النصوص، إلى جانب نصوص قانونية أخرى كافة الضوابط المتعلقة بالأهلية الانتخابية وجعل الوسائل المتصلة بها سببا من أسباب الطعن في العملية الانتخابية ككل، في حالة ما إذا كان المنتخب من الأشخاص الذين لا يجوز لهم الترشح للانتخابات بمقتضى القانون أو بموجب حكم قضائي. وبذلك جعل مجال الطعن في أهلية الترشيح لا ينتهي خلال مرحلة المنازعة في الترشيحات، إنما يمتد مداه إلى مرحلة المنازعة في عملية الاقتراع، إذ يمكن الطعن في أحد المرشحين الفائزين في عملية الانتخاب بعلة عدم توفره على الأهلية الانتخابية.
وبدوره اعتبر القضاء المغربي بأن ” الأهلية الانتخابية هي من النظام من النظام العام وعلى المحكمة المعروض عليها النزاع أن تثيرها تلقائيا “.
نفس الموقف اتخذه الاجتهاد القضائي المقارن حيث اعتبر مجلس الدولة الفرنسي في أحد قراراته بأن ” الإخلالات المستمدة من الأهلية الانتخابية تعتبر من وسائل النظام العام التي يتعين على القاضي الانتخابي إثارتها تلقائيا، ويترتب عنها بطلان العملية الانتخابية ” وبدوره عمل الفقه على تزكية هذا التوجه بحيث اعتبر الأستاذان Ricci و Debbasch أن عدم توفر المرشح على الأهلية الانتخابية يعتبر من وسائل النظام العام التي يتعين على القاضي إثارتها تلقائيا ونفس الأمر بالنسبة لحالات التنافي.
وبعد استعراضنا باختصار للتأطير القانوني والقضائي والفقهي للأهلية الانتخابية، سوف ننتقل للحديث عن مجموعة من المواقف القضائية المتعلقة بموضوع هذه الدراسة، وتحليل الطريقة التي تعامل بها القاضي الانتخابي المغربي مع النصوص القانونية المتعلقة بالأهلية الانتخابية.
ثانيا : منظــور القاضي الانتخابي للمنازعات المتعلقة بالأهلية الانتخابية
على الرغم من الطابع الموسمي للمنازعة الانتخابية بالنظر إلى ارتباطها بالاستحقاقات الانتخابية، فإن الغوص في اجتهادات القضاء الانتخابي المغربي، والتمحيص في الأحكام والقرارات الصادرة عنه يكشف بجلاء بأنه قد راكم تجربة غنية ومتنوعة، خاصة على مستوى الطعــون المتعلقة بالأهلية الانتخابية.
وإذا كان المشرع المغربي قد حدد الضوابط القانونية المنظمة لأهلية الترشح للانتخابات، فإن جرد العمل القضائي الصادر في هذا المجال يكشف بأن القراءة التي أعطاها القاضي الانتخابي لهذه النصوص تراوحت بين التقيد الحرفي بالمقتضيات الواردة بها وبين فتح مجال الإجتهاد على الرغم من صراحة النص القانوني.
وهي هذا السياق ذهبت المحكمة الإدارية بالدار البيضاء في حكمها الصادر بتاريخ 28 شتنبر 2015 تحت عدد 2309 في الملف 242/7107/2015 إلى التصريح بأن ” ثبوت جنحة إهمال الأسرة في حق المطلوب في الطعن بمقتضى حكم نهائي بات، يجعله غير مؤهل لتولي مهام نيابية، على اعتبار أن الذي لا يؤتمن على أسرته الصغيرة لا يؤتمن على تدبير الشأن المحلي”.
ويتبين من خلال الحكم المذكور بأن المحكمة استحضرت معطى أخلاقيا للقول بعدم أهلية المطلوب في الطعن، على الرغم من أن الجنحة التي أدين من أجلها والعقوبة الصادرة في حقه ليست من الموانع التي حددها المشرع لفقدان الأهلية الإنتخابية. وبذلك فإن المحكمة فتحت مجالا للإجتهاد على الرغم من صراحة النص القانوني الذي حدد على سبيل الحصر الجرائم والعقوبات التي من شانها إسقاط الأهلية الإنتخابية.
وبمناسبة الطعن بالاستئناف الموجه ضد الحكم المشار إليه أعلاه ذهبت محكمة الاستئناف الإدارية بالرباط في قرارها الصادر بتاريخ 27/11/2015 تحت عدد 5024 في الملف عدد 276/7212/2015 إلى القول بأن موانع الأهلية محددة بمقتضى المادة السابعة من القانون رقم 11-57 المؤرخ في 28 أكتوبر 2011 المتعلق باللوائح الانتخابية العامة، وبأن العقوبة الصادرة في حق المستأنف لا تدخل ضمن العقوبات المترتبة لفقدان الأهلية للترشح لعضوية المجالس الجماعية. وانتهت في قرارها إلى التصريح بإلغاء الحكم المستأنف وتصديا الحكم برفض الطعن.
ويستشف من قرار محكمة الاستئناف المذكور بأنه طالما أن المشرع قد حدد بصفة صريحة وعلى سبيل الحصر موانع الأهلية الانتخابية فإنه لا مجال لتجاوز القاضي الانتخابي للحدود المسطرة قانونا، وفسح المجال للاجتهاد في ضوء صراحة النص القانوني.
وفي سياق آخر، عرضت على القاضي الانتخابي المغربي مسألة تتعلق بمدى حجية الحكم بالإدانة الصادر عن جهة قضائية أجنبية بإحدى العقوبات المانعة للترشيح، وهنا اعتبرت محكمة الاستئناف الإدارية بالرباط في قرارها المؤرخ في 16/10/2015 بأن “العبرة بتحقق الإدانة في حد ذاتها كمانع للانتخاب والترشح سواء تمت من طرف محاكم المملكة أو من المحاكم الأجنبية، وهي دلالة تبرز واضحة في صياغة المادة السابعة من القانون رقم 57-11 المتعلق باللوائح الانتخابية التي ربطت المنع بوجود حكم نهائي بالإدانة، ولم تقيده بوجوب أن يكون ذلك الحكم صادرا عن إحدى محاكم المملكة، بمعنى أن الحكم الصادر في حق المواطن المغربي عن الجهات القضائية المختصة في الدول الأجنبية يكون مانعا للترشيح للانتخاب دون حاجة إلى اتباع مسطرة تذييله بالصيغة التنفيذية، ما دام أن الأمر ليست له أية صلة بتنفيذ العقوبة المحكوم بها داخل التراب الوطني، وإنما فقط إعمال الآثار التي يرتبها القانون الانتخابي عليها، وبالتالي يكون جميع ما اثير من طرف المستأنف حول خرق مبدأ إقليمية القوانين غير وجيه”. كما أضاف نفس القرار من جهة أخرى بأنه ” ولما كان المستأنف قد تحقق فيه أحد الموانع لكي يكون ناخبا وفقا لما هو منصوص عليه في المادة السابعة من القانون رقم 57-11، وبالتبعية انعدام أهلية الترشيح عملا بمقتضيات المادة السادسة من القانون التنظيمي رقم 59-11، فإن انتخابه لعضوية المجلس الجماعي يقع باطلا بصريح نص المادة 32 من هذا القانون”.
وبخصوص استرجاع الأهلية بمقتضى قرار رد الاعتبار، فقد اعتبرت محكمة الاستئناف الإدارية بالرباط في أحد قراراتها بأنه ” لئن كان الطاعن (المستأنف) قد أسس طعنه على عدم أهلية المرشح الفائز بصدور حكم نهائي في مواجهته قضى بإدانته بعقوبة حبس نافذة مدتها عشرة أشهر، فإن إدلاء هذا الأخير بقرار صادر عن محكمة الاستئناف بالرباط برد الاعتبار يمحو بالنسبة للمستقبل الآثار الناجمة عن العقوبة وعلى حالات فقدان الأهلية المترتبة عنها وعملا بالفقرة الثانية من الفصل 687 من القانون الجنائي، فإن رد الاعتبار يجعله متوفرا على الأهلية الانتخابية”.
وإذا كان الموقف المعبر عنه من طرف المحكمة في القرار الآنف الذكر، واضح المعالم بخصوص أثر رد الاعتبار على استرجاع الأهلية الانتخابية، فإنه عرضت على القضاء حالات أكثر تعقيدا، بخصوص الأثر المذكور خاصة عندما تكون العقوبة المسقطة للأهلية الإنتخابية مقترنة بالحالة التي يصدر فيها الحرمان من حق الترشح للإنتخاب لمدتين انتدابيتين متتالية بموجب المادة 104 من القانون رقم 9-97 المتعلق بمدونة الانتخابات.
وفي هذا الصدد اعتبرت محكمة الاستئناف الإدارية بالرباط في أحد قراراتها بأنه “خلافا لما تمسك به المستأنف، فإنه لئن كان قد حصل على رد الاعتبار القانوني بعد مرور المدة المحددة في خمس سنوات تحتسب من التاريخ الذي أصبحت فيه العقوبة مكتسبة لقوة الشيء المقضي به عملا بمقتضيات المادة 689 من قانون المسطرة الجنائية، إلا أنه في نازلة الحال، فإن حرمانه من الترشح للانتخاب هو بقوة القانون تنفيذا لمقتضى قانوني خاص هو نص المادة 104 من القانون رقم 9-97 المتعلق بمدونة الانتخابات التي تقضي بأنه يترتب على العقوبات الصادرة بموجب المواد من 100 إلى 102 وهي المواد المحددة للجنح التي أدين بسببها المعني بالأمر الحرمان من حق الترشح للانتخاب لمدتين انتدابيتين متتاليتين مهما كانت مدة العقوبة الحبسية المحكوم بها سواء كانت نافذة أو موقوفة التنفيذ، وهي المقتضيات التي حلت محلها المقتضيات الواردة في المادة 69 من القانون التنظيمي رقم 59-11 المتعلق بانتخاب أعضاء مجالس الجماعات، مما حاصله أن ارتفاع مانع الأهلية في مثل هذه الحالة واستعادة المحكوم عليه أهلية ترشح للانتخاب لا يمكن تحققه إلا بانصرام مدة الولايتين الانتخابيتين بصورة كاملة باعتباره الجزاء الذي رتبه المشرع الانتخابي في النص الخاص بالإدانة بالجرائم المشار إليها أعلاه على مستوى الأهلية الانتخابية.
وخلاصة ذلك أن المحكمة اعتبرت أنه لا مجال للتمسك بالأحكام العامة المطبقة على جميع الإدانات الزجرية المنصوص عليها في قانون المسطرة الجنائية ، والتي تكون نافذة ما لم يوجد نص خاص يقرر خلافه. وبذلك يمكن القول بأن رد الاعتبار ينصرف إلى حالات فقدان الأهليـــــة التي لم ينص المشرع عــــــلى مقتضيات خاصة تحدد شروط استعادتها.
أما في الحالات المشار إليها في القرار المستدل به أعلاه، فإنه لا يرفع مانع الأهلية إلا بمضي مدتين انتدابيتين متتاليتين، وإن التمسك بخلاف ذلك سوف يترتب عنه بصفة آلية تعطيل نص المادة 69 من القانون رقم 59-11، وبالتالي لا يتصور أن يسن المشرع مقتضى قانونيا يستحيل تطبيقه، وهو ما يؤكد بأن رد الاعتبار لا تأثير له على رفع موانع الأهلية عندما يؤكد القانون أحكاما خاصة لاستعادتها.
وبخصوص تطبيق المقتضى القانوني الوارد في المادة 104 من القانون 9-97 المتعلق بمدونة الانتخابات والذي ينص على أنه يترتب على العقوبات الصادرة بموجب المواد من 100 إلى 102 أعلاه الحرمان من حق الترشح للانتخابات لمدتين انتدابيتين متواليتين، فإنه تولدت عنه إشكالات نشأت عنها نزاعات قضائية مرتبطة بتفسير مدلول المدتين الانتدابيتين المتواليتين، وتحديد ما إذا كانتا تتعلقان بنفس نوع الاستحقاق الانتخابي، أم أنهما تنصرفان إلى كافة أنواع الاستحقاقات.
وفي هذا الإطار، صرحت محكمة الاستئناف الإدارية بالرباط بأنه ” بالرجوع إلى مقتضيات المادة 69 من القانون رقم 59-11 فإن المشرع لم يحدد نوع الاستحقاق الانتخابي الذي ينسحب عليه المنع من الترشح، وبما أن الأمر يتعلق بإحدى المقتضيات الماسة بحقوق المواطنة بشكل أساسي وتحد من ممارستها، فالأصل في تحديد مدلولها أن تخضع لقاعدة التفسير الضيق لصالح المعني بالأمر وعدم التوسع فيها، وبالتالي فالمنع المنصوص عليه في هذه المادة لا ينبغي أن يحمل على إطلاقه بحيث لا يسري على جميع الاستحقاقات الانتخابية بشتى أنواعها، وإنما ينصرف فقط إلى الانتخابات التي أدين بمناسبتها المرشح والمرتكبة خلالها الجرائم المدان من أجلها، سيما وأن النظام الانتخابي المغربي يعرف تباينا في مدة الانتخابات بين استحقاق انتخابي وآخر، والقول بأن المنع ينسحب على جميع أنواع الاستحقاقات الانتخابية يفضي إلى الحرمان من الترشح لأكثر من مدتين انتدابيتين بالنسبة لبعضهما مما يبقى بعيدا عن قصد المشرع، مما حاصله أن منع المستأنف من الترشح يخص نقط الانتخابات المتعلقة بمجلس المستشارين التي أدين بسببها خلال سنة 2007 ولا يسري على الاستحقاق محل الطعن في نازلة الحال المتعلق بانتخاب أعضاء مجالس الجماعات والمقاطعات
ويستفاد من الحيثيات الآنفة الذكر، أن القرار الصادر في النازلة المذكور قد أعطى قراءة سليمة لروح القانون، طالما أن النص القانوني المؤطر للنزاع شابه نوع من الغموض.
وهنا لابد من الإشارة إلى أن الاجتهاد القضائي يجب أن يلعب دورا إيجابيا بخصوص حالات الأهلية الانتخابية، وذلك في الحالات التي يتعذر فيها على المشرع التنبؤ بالتأثير المحتمل لبعض المقتضيات الواردة في النصوص الصادرة عنه. أما في الحالات التي يكون فيها النص القانوني صريحا وواضحا، فإنه يبقى من واجب القاضي التطبيق السليم له دون تجاوز إرادة المشرع.
■ إعداد : د /هشام الوازيكي
دكتور في القانون، أستاذ باحث