هل تفلح الأزمة الحالية في إدماج حماية المناخ في سياسات الإنعاش الاقتصادي؟
بالرغـم من تهويـن البعـض مـن أهميته، أصبح تغيـر المناخ واقعـا ملموسـا تظهـر آثـاره في مختلـف مناطـق العالـم، مـن ارتفـاع سـنوي لدرجـة حـرارة الأرض الذي بلـغ في المتوسـط 1.1 درجـة مئويـة مقارنـة بسـنة 1850 إلى ارتفـاع مسـتوى البحار و المحيطات بمـعدل 3.1 ملـم سـنويا منـذ 1993، وتزايـد وتيـرة الظواهـر المناخيـة القصـوى، ومـا ينتـج عنهـا مـن خسـائر ماديـة وبشـرية، كموجـات الحرارة المفرطـة والجفـاف والفيضانـات حيث توقــعت هيئة الخبــراء الحكومييــن من أجل المنــاخ أن تزداد درجــة حــرارة الأرض في الارتفاع، في أفــق سنة 2100 كما سيعـرف مسـتوى البحـار ارتفاعـا يصل الى 60 سـنتيمترا، محذرة أيضـا مـن تزايـد نسبة التسـاقطات المطريـة.
“يتطلب تغير المناخ تضامنا بلا حدود وخارج الحدود، وليس فقط داخلها، حيث يمكننا التشكيك في الفائدة من إغلاق الحدود للحد من انتشار فيروس كورونا المستجد، ولكن من المؤكد أن انبعاثات الغازات الدفيئة لن تتوقف عند الحدود، وفوق كل شيء، فإن تدابير مكافحة فيروس كورونا التاجي هي تدابير تفرضها حالة الضرورة، لم نقم باختيارها، بل الأكثر من ذلك فنحن نمر بها، لذا يجب اختيار بعناية التدابير الناجعة لمكافحة تغير المناخ”، يلخص فرانسوا جيمين باحث العلوم السياسية.
ويتوقع العلماء أن تنخفض انبعاثات الغازات الدفيئة بأكبر قدر منذ الحرب العالمية الثانية هذا العام بعدما أدى تفشي فيروس كورونا المستجد إلى توقف النشاط الاقتصادي عبر العالم.
وبحسب هيئة الأمم المتحدة يعتبر العقد الأخير من الزمن العقد الأكثر سخونة منذ بدء تسجيل درجات حرارة المناخ، واستنادا إلى الوتيرة الحالية للتطورات المناخية، قد ترتفع درجة الحرارة العالمية خمس درجات حتى نهاية القرن.
و أفادت المنظمة العالمية للأرصاد الجوية أن سنة “2019 يفترض أن تكون ثاني أو ثالث أكثر السنوات حرارةً على الإطلاق” منذ عام 1850، وهو التاريخ الذي بدأ منه تسجيل درجات الحرارة بشكل منهجي.
وأوضحت المنظمة العالمية أن العام “2019 يسجل نهاية عقد بلغت خلاله الحرارة درجات استثنائية، وذوبانا للجليد، وارتفاعا قياسيا لمستويات البحار في الكرة الأرضية، نتيجة لتأثيرات الغازات الدفيئة التي تنتجها الأنشطة البشرية”. واستنادا إلى الوتيرة الحالية للمناخ، فقد ترتفع درجة الحرارة العالمية بأربع أو خمس درجات حتى نهاية القرن.
وحتى لو تقيدت الدول والأطراف بالتزامات سبق وأن اتخذتها في إطار مؤتمرات الأطراف لمكافحة التغير المناخي، سترتفع الحرارة العالمية 3 درجات، مع العلم أن بروتوكول باريس ينص على الحد من الاحترار العالمي دون الدرجتين وتثبيته عند 1,5 درجة.
و أوضح روب جاكسون الذي يرأس مشروع الكربون العالمي ويقدم تقديرات سنوية لحجم انبعاثات الغازات الدفيئة و التي تحظى بمتابعة واسعة النطاق، أنه بسبب جائحة كورونا فإن إنتاج الكربون سينخفض سنة 2020 بأكثر من 5% على أساس سنوي وهو أول انخفاض منذ أن تراجع بنسبة 1.4% بعد الأزمة الاقتصادية و المالية لعام 2008.
وقال جاكسون أستاذ علوم نظم الأرض بجامعة ستانفورد في كاليفورنيا “لن أندهش من رؤية الانخفاض بنسبة 5% أو أكثر في انبعاثات ثاني أكسيد الكربون هذا العام وهو شيء لم نشهده منذ نهاية الحرب العالمية الثانية”، مضيفا: “لا أعتقد أن سقوط الاتحاد السوفياتي ولا أزمات النفط أو المدخرات أو القروض المختلفة خلال الخمسين سنة الماضية قد أثرت على الانبعاثات كما تؤثر هذه الأزمة”.
الاحتباس الحراري أخطر من كورونا
وتمثل هذه التوقعات بارقة أمل في ظل الأزمة، فقد حذر علماء المناخ حكومات العالم من أن الانبعاثات العالمية للغازات الدفيئة يجب أن تبدأ في الانخفاض بحلول عام 2020 لتجنب أسوأ آثار لتغير المناخ على الكرة الأرضية.
ويحذر الخبراء من أنه بدون تغيير حقيقي فإن انخفاض انبعاثات الغازات الدفيئة الناجم عن تفشي جائحة فيروس كورونا المستجد يمكن أن يكون قصير الأجل ولن يكون له تأثير يذكر على تركيزات ثاني أكسيد الكربون التي تراكمت في الغلاف الجوي على مدى عقود.
ويعتبر الاحتباس الحراري أكثر خطورة بكثير من جائحة كورونا حيث سيكون من الخطأ الاعتقاد بأن وباء الفيروس التاجي أكثر خطورة من تغير المناخ، فالبشر أقل ميلا لتغيير سلوكهم اتجاه المناخ لأن عواقب ترددهم بعيدة، في المكان كما في الزمان، وهذا من منظور التاريخ البشري ومن المنظور العالمي، وعلى عكس ذلك فأزمة المناخ وفقدان التنوع البيولوجي أكثر شيء مقلق للبشرية من عدوى فيروسية إضافية، مهددة وقد تكون قاتلة و من واجب السياسة استخلاص النتائج الضرورية من هذه الحقائق، والتصميم على اتخاذ إجراءات ضد أزمة المناخ في النهاية.
وكان صندوق النقد الدولي قد أكد على أن جائحة فيروس كورونا المستجد ستتسبب في أسوأ أزمة اقتصادية عالمية منذ أزمة 1929.
وقالت رئيسة صندوق النقد الدولي، كريستينا جورجيفا، في كلمة ألقتها خلال اجتماعات صندوق النقد الدولي الربيعية عن طريق تقنية الفيديو، إن أكثر من 170 دولة من أصل 189 دولة عضو في الصندوق ستشهد انكماشا مهما على مستوى الدخل الفردي.
وأضافت جورجيفا أن الاقتصاد العالمي سيشهد في أحسن الأحوال “انتعاشا جزئيا” في سنة 2021، شريطة أن يتم احتواء الوباء بسرعة في النصف الثاني من سنة 2020، حتى يصبح من الممكن رفع تدابير العزل الصحي للأفراد وبالتالي السماح باستئناف النشاط الاقتصادي، وحثت على تجنب أن تتحول أي صعوبات محتملة في السيولة المالية إلى مشاكل في القدرة المالية للأسر والشركات، مما قد يترك “بصمة سلبية على الاقتصاد العالمي ستزيد من صعوبة الانتعاش الاقتصادي”.
وكان صندوق النقد الدولي قد أعلن أن أكثر من 90 دولة تقدمت بطلبات المساعدة المالية الطارئة من الصندوق في ظل دخول العالم أزمة اقتصادية غير مسبوقة بسبب تفشي جائحة فيروس كورونا المستجد.
ويحذر فاتح بيرول، المدير التنفيذي لوكالة الطاقة الدولية: “من المهم جدا ألا تفكر الحكومات فقط في تحفيز الاقتصاد والتركيز على بناء مستقبل أفضل، بل إن مخططات التحفيز الاقتصادي على هذا النطاق تحدث مرة واحدة فقط في القرن، وبالنظر إلى المبالغ المالية المعبأة، سيؤدي ذلك إلى هيكلة الاقتصاد وتشكيل العالم الذي سنعيش فيه”.
وانتقد المدير التنفيذي للوكالة الدولية للطاقة فاتح بيرول دور السعودية وروسيا في الهبوط الحالي لأسعار النفط معتبرا أن “التاريخ سيحكم عليهما” ومضيفا أن “مواطني العالم سيتذكرون أن قوى كبرى لديها سلطة إرساء استقرار الاقتصاد في العديد من الدول في فترة وباء غير مسبوق قررت عدم ممارسة ذلك، والتاريخ سيحكم عليها”، مذكرا بمخاطر حصول زعزعة استقرار في بعض الدول المنتجة.
وأضاف بيرول أن المملكة العربية السعودية التي اختارت إغراق السوق بالنفط ومشتقاته رغم تراجع الطلب عليها مع انتشار وباء فيروس كورونا المستجد “إنما تسيء إلى نفسها عبر خفض أسعار النفط” لكنها تقوم بذلك “لاعتبارات سياسية ودبلوماسية”.
واعتبر فاتح بيرول أنه من أجل الخروج من الأزمة الحالية يجب إما حصول “انتعاش اقتصادي معمم بعد الوباء” لدعم الطلب وإما التوصل الى اتفاق بين الدول المنتجة “لتثبيت استقرار الأسعار” وتابع “أنا على اتصال منتظم مع الأمين العام لأوبك ووزراء الدول المصدرة وهناك اتصالات غير رسمية لكن لا شيء ملموسا ظهر حتى الآن”.
وكانت الوكالة الدولية للطاقة عبرت اعتبارا من بدء الأزمة عن خشيتها من آثار اقتصادية واجتماعية “كبرى” على الدول المنتجة للنفط وخصوصا العراق وأنغولا أو نيجيريا.
ودارت حرب نفطية بين السعودية، أكبر مصدر للنفط في العالم، وروسيا، ثاني أكبر المصدرين، في الأسابيع الماضية بعد فشل مجموعة الدول المصدرة “أوبك” بقيادة المملكة العربية السعودية والدول النفطية خارجها بقيادة موسكو في الاتفاق على خفض الإنتاج.
وردا على الموقف الروسي، خفضت السعودية أسعار النفط المطروح للبيع لديها إلى أدنى مستوياتها منذ 20 عاما، في محاولة للاستحواذ على حصّة كبيرة في السوق، الأمر الذي أثار اضطرابات في أسواق الطاقة وحرب الأسعار.
وأكدت الخبيرة الاقتصادية هيلين مونتفورد، نائبة رئيس معهد الموارد العالمية أن: “أمام الحكومات والشركات التي تخطط لإجراءات التحفيز خياران: إما أن تحاصرنا لعدة عقود أخرى في نموذج التنمية الملوثة وغير الفعالة وغير المستدامة والقائمة على الكربون، أو أنها تغتنم الفرصة لتسريع التحول إلى الطاقات النظيفة وإلى النقل المستدام منخفض الكربون، الأمر الذي سيحقق فوائد اقتصادية وبيئية طويلة الأجل”. ولتنفيذ الانتقال الطاقي، تبدو بعض السبل واضحة للخبراء، حيث يجب أن تبدأ الدول بإعطاء الأولوية لدعم النجاعة الطاقية في المباني وجميع الإجراءات للحد من استهلاك الطاقة، وقال فاتح بيرول “هذا قطاع يمكنه تقليل انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، مع توفير الكثير من فرص العمل”.بالنسبة لمايكل ليبريتش من بلومبرج للطاقة الجديدة والتمويل، فإن الأولوية ليست في تفضيل مزارع الرياح والطاقة الشمسية، فهي غير مكلفة ومربحة في معظم أنحاء العالم، وبدلا من ذلك، فإنه يدعو إلى استثمارات هادفة لإحداث التحول الضروري لشبكات الكهرباء والبنيات التحتية للتخزين، حتى يتمكنوا من امتصاص انقطاع التزويد بالكهرباء انطلاقا من الطاقات المتجددة. الخوف من موجة جديدة للتلوث وتضر جائحة كورونا باقتصاديات العالم، فقد قطعت البلدان بالفعل الزوايا على المعايير البيئية لتوقع التعافي، متناسين حالة الطوارئ المناخية الأخرى، والتخوف كل التخوف من البلدان المتضررة من أزمة فيروس كورونا التي يجب عليها أن تتجنب حدوث موجة ثانية من التلوث، وهو المتوقع من الحكومات بالفعل ما بعد الأزمة.وقد يميل البعض إلى التشكيك في التدابير المتخذة لمكافحة تغير المناخ، باسم الانتعاش الاقتصادي، حيث يخشى البلجيكي فرانسوا جيمين، الباحث في جامعة لييج وعضو هيئة خبراء المناخ التابعة لهيئة الأمم المتحدة من وقوع ما لا يحمد عقباه.وكانت وكالة حماية البيئة الأمريكية قد أوقفت تنفيذها مؤقتا للقوانين البيئية خلال الأزمة الحالية التي خلفها فيروس كورونا، وقال أندرو ويلر ، الرئيس التنفيذي للوكالة، إن الشركات لن تعاقب على تلوث الهواء أو الماء إذا كانت الانتهاكات ناجمة عن جائحة فيروس كورونا، كما قامت إدارة الرئيس الأمريكي بترك المتابعات المتعلقة بمعايير انبعاثات السيارات و بالتالي الحد من انبعاثات الغازات الدفيئة و التي كان من المقرر أن تصل إلى 5٪ في السنة الحالية، حيث ستكون محدودة فقط بــــــــــــــــ 1.5٪. في حين أن التلوث يجعل فيروس كورونا أكثر خطورة على الصحة، وبالتالي سيكلف صناعة الرعاية الصحية 190 مليار دولار بحلول عام 2050، وفقًا لمؤسسة الدفاع البيئي الأمريكية.”في هاته اللحظة، سنقدم خططا مناخية أكثر في شهر شتنبر المقبل، كما هو مبرمج له”، هذا ما وعد به الهولندي فرانس تيمرمانز مفوض المناخ في المفوضية الأوروبية و لكن باسم الأزمة الصحية طالبت بولونيا وجمهورية التشيك بالتخلي عن الميثاق الأخضر الأوروبي الذي يجب أن يؤدي إلى اقتصاد ما بعد الكربون.و ألغت وزارة التجارة الأندونيسية نظام ترخيص الأخشاب الثمينة من الغابات الاستوائية اعتبارا من 27 ماي المقبل، حيث لن يطلب من المنتجين ضمان المصدر القانوني للخشب، و يؤكد علماء الأحياء منذ بداية الوباء على أن هذه الغابات الاستوائية مليئة بالأوبئة و الأمراض المعدية والخفافيش كفيلة بنقلها.في بعض المجتمعات إجراءات احتواء فيروس كورونا المستجد كلفت البيئة غاليا، كما هو الحال في باريس حيث لم يعد الفرز من المصدر وعملية تدوير النفايات مضمونًة، بعد إعطاء التعليمات لعمال النظافة لجمع النفايات بشكل استثنائي وبشكل مختلط.
في الصين باعتبارها أول دولة متضررة فإن الجهود التي بذلتها لمكافحة الوباء اعتبرت بالمبهرة، ففي مركز الوباء في مقاطعة هوبي، كان عمال الصحة والطوارئ يعملون على مدار الساعة حتى نجحت إجراءات الكشف والفحص، وكذلك القيود على حركة السيارات والقطارات والطائرات، في وقف انتشار الفيروس بنجاح.
إن استعداد الحكومة الصينية لتلقي المشورة وتقاسم الخبرة الدولية ولا سيما مع منظمة الصحة العالمية، ساعد على تقدم معرفة الفيروس وساعد الدول المتضررة على حماية مواطنيها والسيطرة على انتشار الفيروس و احتوائه، خصوصا مع تأكيد الحالات في 170 دولة حتى الآن مما عجل بالدعوة الى العمل الجماعي والتضامن الذي ذو أهمية بالغة من أي وقت مضى.
وبروح التضامن، التزم برنامج الأمم المتحدة الإنمائي بالعمل مع البلدان والمجتمعات حول العالم لمكافحة الوباء، ففي الصين مثلا، قدم برنامج الأمم المتحدة الإنمائي الدعم الكامل للسكان والحكومة، بالعمل مع السلطات المختصة لتقديم الدعم في حالات الطوارئ ودعم شراء اللوازم الطبية الأساسية.
وبتمويل أولي قدره خمسمائة ألف دولار أمريكي للاستجابة لحالات الطوارئ، قدم برنامج الأمم المتحدة الإنمائي للصين المعدات الأساسية للحد من خطر الإصابة بالعدوى التي تواجهها الأطر الصحية بفضل تواجدها في الخطوط الأمامية للمعركة، بما في ذلك مضخات التنفس وأنظمة مراقبة المرضى والفحص.وعلى عكس وباء سارس الذي أصاب الصين والعالم عام 2002، حيث كانت الصين قد ساهمت آنذاك بنسبة 4 ٪ فقط من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، فهي الآن تمثل حوالي 16٪ من الناتج المحلي الاجمالي العالمي، باعتبارها ثاني أكبر اقتصاد في العالم وسوق استهلاكية ضخمة، وترتبط الصين ارتباطًا وثيقًا ببقية العالم من خلال التجارة والاستثمار والتمويل حيث أن اندماجها في شبكات النقل العالمية متعدد الأوجه ومعقد.ويجب أن تؤثر النتائج الجانبية الاقتصادية على سبل عيش السكان، حيث يكون الأشخاص الأكثر تضررا هم الأكثر تضررا بسبب إجراءات الحجر الصحي، فالعديد من الأشخاص لن يتمكنوا من العودة إلى العمل، وبدون آليات الادخار المالي، فإن أولئك الذين انتشلوا حديثًا من براثن الفقر يمكن أن يعودوا إليه.ولهذا السبب فمن الضروري الاستجابة لحالات الطوارئ، ومعالجة التأثير الاجتماعي والاقتصادي والبيئي للأزمة والتركيز على حماية المجتمعات الضعيفة في أكثر المناطق تأثراً، وينبغي بذل الجهود لفهم آثار الفيروس على مستوى الأسرة وكذلك على المؤسسات الصغيرة والمتوسطة الحجم التي تشكل العمود الفقري للعديد من الاقتصادات المحلية، من أجل تقييم مدى تأثير الوباء على قدرة الأسر والناس لدعم بعضهم البعض. وفي هذا الإطار عمل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي على تنفيذ تقييمات اجتماعية واقتصادية للأزمة الصحية في مقاطعة هوبي الصينية من خلال إحصائيات تهم الأسر المعيشية، وإعطاء الأولوية للفئات الأكثر ضعفا، بالإضافة إلى ذلك تم أيضا جمع البيانات لقياس تأثير الفيروس على النشاط الاقتصادي للشركات الصغيرة، وأفادت هذه النتائج بالتدابير التي اتخذتها الحكومات المحلية لتحسين مستوى عيش المجتمعات. إن التقدم المحرز حتى الآن في مكافحة الفيروس التاجي مشجع، ومع ذلك فالمعركة لن تنتهي إلا عندما يتم التعامل مع آخر حالة مؤكدة مصابة بفيروس كورونا عبر العالم، وستكون تداعيات هذا الوباء واسعة ودائمة، لذا يجب علينا أن نسعى لفهمها على المدى القصير من أجل التصدي للتحديات المحتملة على المدى الطويل، وبهذه الطريقة، يمكننا أن نضمن أن التعافي من هذه الأزمة قد أصبح مستداما وأن لا أحد سيتخلف عن الركب. دروس كورونا
ولسنوات مضت أكد لنا العلماء والمراقبون من ذوي الخبرة، مثل وكالة المخابرات المركزية أن الأوبئة العالمية لا مفر منها وأن آثارها ستكون مدمرة، وباستثناء قلة قليلة، فإن القليل من الدول والشركات استعدت لذلك، ويعتبر هذا درسا خطيرا يمكن تعلمه استعدادا للأزمات القادمة مثل أزمة المناخ.
كان هناك تأثير مذهل عندما وصلت أزمة فيروس كورونا المستجد إلى أوروبا، بعدما كان قد انفجر الوباء في مدينة ووهان الصينية، واعتبر آنذاك حدثا آسيويا بعيدا و معزولا، فمن منا كان يتنبأ بأن فيروسا واحدا وحيدا سيصنع فينا كل هذا، في الحقيقة، كان بإمكاننا جميعا أن نتوقع ذلك، فقد كانت هناك العديد من التنبيهات.
تميل العادة البشرية إلى جعل الناس ينسون خطورة الأوبئة القديمة مثل الأنفلونزا الإسبانية عام 1920 وأنفلونزا الجدري في عام 1977 و أنفلوانزا الطيور في عام 1997، وأنفلونزا السارس في عام 2003، و أنفلوانزا الخنازير سنوات 2009 و 2010، و فيروس كورونا المسبب لمتلازمة الشرق الاوسط في عام 2013، وحمى الايبولا في مارس 2014، فقد ظل العديد من الخبراء يذكروننا بأننا لا زلنا لا نحترم الطبيعة تمامًا، عندما لا تزال الفيروسات أو البكتيريا تصيبنا.
يقول أحد الخبراء: “يعاني العالم من جائحة كورونا في حين أن اجتياحها كان تقريبا منتظرا وحتميا، وكنا قد حذرنا في العديد من المناسبات من وقوع الجائحة، لكن للأسف مع استثناءات قليلة، فشلت عدة حكومات في جميع أنحاء العالم في الاستعداد بشكل ملائم”.
التنبيهات ليست مقتصرة فقط على العلماء، فقد وضع الخبراء الاقتصاديون في منتدى دافوس الاقتصادي خطر انتشار الوباء من بين أخطر التهديدات التي قد تصيب الكوكب الأزرق، قال بيل جيتس في عام 2015 بعد تفشي فيروس حمى الإيبولا والذي وصل في نهاية المطاف إلى الولايات المتحدة الامريكية بعد أن قتل أربعة أشخاص هناك: “إذا قتل شيء ما أكثر من 10 ملايين شخص في العقود القليلة القادمة، فمن المحتمل أن يكون فيروسا شديد العدوى بدلا من الحرب”.
والأقوى، نجد تنبيهات من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، التي قدمت في عام 2009 تقريرا عن المخاطر في العالم في عام 2025، وفي مقتطف مشترك للوكالة تم تقاسمه على نطاق واسع على شبكات التواصل الاجتماعي يمكن للمرء أن يقرأ: “إذا كان هناك إعلان عن مرض أو جائحة وبائية سوف تكون بلا شك في منطقة ذات كثافة سكانية عالية، قريبة للغاية بين البشر والحيوانات كما هو الحال بالنسبة للصين أو دول جنوب شرق آسيا”، و ربما تحدث خبراء وكالة المخابرات الأمريكية عن عشرات الملايين من ضحايا الجائحة الوبائية لفيروس كورونا المستجد بما فيها دول الاتحاد الاوروبي والولايات المتحدة الأمريكية وكندا.
نادرا هم أولئك الذين أخذوا هذه التنبيهات على محمل الجد، فالدول الوحيدة التي تفاعلت بايجابية هي الدول الآسيوية الثلاث : كوريا الجنوبية وسنغافورة وهونغ كونغ التي تتوفر على ذاكرة مريرة لوباء السارس لعام 2003،فقد استخدمت جميع مواردها الاقتصادية والاجتماعية و البشرية منذ بداية الأزمة الحالية التي خلقها فيروس كورونا المستجد.
في فرنسا مثلا قام الساهرون على إنتاج وتوزيع الكهرباء بتفعيل الخطة الوطنية لاحتواء وباء كورونا المستجد والتي كانت قائمة منذ عام 2000، حيث يتم تحديثها بانتظام منذ 15 مارس الماضي، وعلى هذا النحو، يمكن للشركة المشرفة على إنتاج الكهرباء أن تدير مرافقها بأقل من نصف عدد اليد العاملة العادية، وبالتالي تضمن تزويد المنازل والشركات والمكاتب بالكهرباء من دون أي توقف أو انقطاع.
في المجال الرياضي، عملت إدارة بطولة ويمبلدون للتنس التي تنظم كل سنة في أواخر شهر يونيو سنويا منذ سنة 1877 بإنجلترا، وبعد أن كشفت الجهات المنظمة عن إلغاء البطولة هذه السنة بسبب جائحة فيروس كورونا حيث ألغيت مثلها مثل العديد من الأحداث الرياضية الأخرى عبر العالم، فقد عملت إدارة هذه البطولة العالمية على تحصيل التأمين ضد مخاطر الأوبئة منذ وباء السارس في عام 2003.
تثبت هذه الأمثلة أنه كان من الممكن التنبؤ وجعل اقتصاداتنا أكثر مرونة، مع اعتبار أزمة فيروس كورونا المستجد دعوة للاستيقاظ من جديد، لأن هناك أزمة حتمية أخرى يصرح بها العلماء ويطالبوننا بالتحضير لها وبقوة إنها أزمة المناخ.
وبسبب جائحة فيروس كورونا المستجد وللمرة الأولى منذ عام 1980 ستخفض محطات الطاقة الشمسية الجديدة إنتاجها الكهربائي هذا العام، هذا ما جاء به تقرير منظمة بلومبيرغ للطاقات المتجددة والتمويل، فبعد تعافي المدن الصينية من جائحة كورونا فإن “المصانع الصينية بدأت بالعمل مرة أخرى، لذا فإن الضغط على توريد المكونات والمعدات الرئيسية للطاقة الشمسية سيخف نوعا ما”. إلا أن التخوف يأتي من جهة صانعي السياسة عبر العالم الذين قد يحولون انتباه الرأي العام من الاهتمام بالطاقة النظيفة بصفتها منافسا شرسا للطاقات الأحفورية خاصة وأن أسعار الوقود الأحفوري، سواء كان نفطا أو غازا أو فحما، قد انخفضت بشكل حاد في زمن كورونا.
وستظهر تأثيرات الفيروس أكثر مع حلول عام 2021 الذي سيعرف تباطؤا في مشاريع الطاقات المتجددة بنسبة 10 ٪، بفعل زيادة الدولار الأمريكي وتراجع العملات في جميع أنحاء العالم، وتعد أستراليا والبرازيل والمكسيك وجنوب إفريقيا من أكثر الدول تضررا حيث أن جميعها لديها أهداف طموحة لتركيب الألواح الشمسية، وقال الخبراء: “قد تواجه المشروعات زيادات في تكاليف رأس المال تصل إلى 36٪ بسبب الانخفاض السريع في قيمة العملات المحلية في هذه الدول”.
وتتميز كل من المكسيك والبرازيل بإنشاء أكبر حقل للطاقة الشمسية في أمريكا اللاتينية وبقدرة كهربائية جد مهمة، لكن البلدين يشهدان في زمن كورونا انخفاضا حادا في العملات مقابل الدولار الأمريكي مما سيؤثر على تتمة إنجاز مجموعة من المشاريع خصوصا تلك التي لم تبدأ بعد.
ويمكن أن تنخفض تركيبات الطاقات الريحية بحوالي 6.5٪ على مستوى العالم وفقًا لآخر الدراسات، في حين كان من المفترض أن يكون عام 2020 عامًا قياسيا، “إن التأثير الأكثر أهمية هو في الصين والولايات المتحدة حيث كان من المتوقع حدوث عمليات تسليم قياسية ولكن يمكن أن تتأثر فرنسا وإسبانيا وإيطاليا بقوة أكبر من حيث النسبة المئوية بسبب تدابير الاحتواء الجذرية”، كما يتنبأ دان شريف، مدير الأبحاث في الطاقة الريحية.
في فرنسا، تم الإعلان عن تدابير لدعم قطاع الطاقات المتجددة عبر منح آجال إضافية للمقاولات والشركات مع الحفاظ على نفس أسعار الاقتناء طيلة ثلاثة أشهر المقبلة، وتأجيل طلبات العروض للصفقات المبرمجة والمتعلقة بتزويد وإنشاء محطات لإنتاج الكهرباء انطلاقا من الطاقات النظيفة، وكانت وزيرة الانتقال الإيكولوجي الفرنسية إليزابيث بورن قد صرحت بأن “الأزمة الصحية التي نمر بها يجب ألا تجعلنا بأي حال من الأحوال نتخلى عن أهدافنا الطموحة من حيث تطوير الطاقات المتجددة”.
وتطمح المنظمات البيئية الدولية أن توجه استثمارات التحفيز الاقتصادي في زمن ما بعد جائحة كورونا بشكل خاص نحو دعم مشاريع النجاعة الطاقية والطاقات المتجددة والنقل المستدام.
و للتاريخ فقط فإن المخططات الضخمة لإنعاش الاقتصاد العالمي ما بعد أزمة 2008 كانت قد أدت إلى زيادة حادة في انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون، لذا فإن التساؤل المطروح بحدة اليوم هو: هل سيتكرر نفس السيناريو بعد مرور 12 سنة تقريبا، أم أن هذه الأزمة ستكون فرصة لتوجيه المخططات الاقتصادية العالمية نحو الانتقال الطاقي والانتقال الإيكولوجي، وهل ستلغي الأزمة الاقتصادية الناجمة عن وباء كورونا الجهود المبذولة للحد من آثار تغير المناخ؟
وهل سيكون من الخطأ الرهان على تغيير سلوكيات الانسان لوحده إذا أردنا حماية المناخ، و الحرص على نهج السلوكيات المسؤولة والإيجابية اتجاه كوكب الأرض، أم سنكون قادرين على إتباع مبدأ البساطة إذا مددنا يد المساعدة في إنقاذ المناخ، خصوصا و أن العديد من الأشخاص سيعانون وبشكل مباشر من حجم التغييرات التي سيتعين عليهم إجراؤها حتى يكون لهم تأثير و لو ضئيل على المناخ، وسيقرر الكثيرون منهم أنهم ليسوا مستعدين لتقديم مثل هذه التضحيات، إنها إستراتيجية مكافحة تغير المناخ التي تعتمد فقط على تطور السلوك الفردي و التي تدور عدة تساؤلات حول مآلها نحو الفشل.
من نواح عديدة، تعد أزمة فيروس كورنا المستجد مرحلية وسيتجاوزها العالم بأقل الخسائر من تلك التي يخلفها الاحترار العالمي، ولحسن الحظ أنه اليوم يتم الإنصات لنداءات علماء المناخ أكثر فأكثر، بفضل مظاهرات الشباب من أجل المناخ، ومادام الشباب يقود قافلة التغيير فإنه يمكن الجزم بأنه لم يفت الأوان بعد على الإطلاق.
(*) رئيس المكتب الوطني لجمعية مغرب أصدقاء البيئة
محمد بنعبو (*)