تباينت مؤخرا المواقف بشأن إشكالية تكييف إصابة الأجراء والموظفين بفيروس كورونا والتي قد ينجم عنها توقف العمل نتيجة التوقف المؤقت لعقد العمل بسبب المرض وذلك وفق أحكام قانون الالتزامات والعقود ومقتضيات مدونة الشغل. وتتمثل الإشكالية في اعتبار هده الإصابة (l’affection) حادثة شعل أم مرض مهني أم مرض غير مهني.
واعتبر البعض أن هده الإصابة بمثابة حادثة شغل، في حين يرى البعض أنها مرض مهني، في الوقت الذي يرى البعض الآخر انها مرض لا علاقة له بالعمل أو المهنة.
واعتبارا لأهمية هذه الإشكالية ولأثارها القانونية والاجتماعية، فإنني ارتأيت أن أساهم في نقاش وتحليل هده الإشكالية على ضوء التشريح الاجتماعي.
إن الاجابة عن هذه الإشكالية تتطلب تعريف المفاهيم من جهة، والاستناد إلى القوانين التي تنظم المخاطر المهنية موضوع النقاش.
***************************
أولا: تعاريف وخصائص المخاطر المهنية الضارة بالأجراء
خلال ممارساتهم لمهنهم ولأعمالهم، قد يتعرض العمال والمستخدمون لمخاطر مهنية تتمثل في إصابتهم بأمراض مهنية ناتجة عن ظروف العمل، وبأمراض غير مهنية قانونا لكنها مرتبطة ببيئة العمل، أو بأمراض لا علاقة لها لا من بعيد ولا من قريب بالعمل، ومخاطر تتمثل في حوادث شغل تقع بسبب الشغل.
> المرض المهني (la maladie professionnelle)
يعرف الظهير الصادر في 31 ماي 1943 الذي مدد تطبيق أحكام ظهير 27/6/1927 حول حوادث الشغل إلى الأمراض المهنية بأن الأمراض المهنية “تعتبر أمارات الادواء الناشئة عن تسميم الأجسام بصفة حادة أو مزمنة مسببة عن تعاطي المهن عند ظهورها على العملة المعرضين عادة لتأثير المواد السامة المبينة في القائمات المضافة إلى القرارات الصادرة من طرف مدير الشغل والعمال والمسائل الاجتماعية للأجراء بشريف ظهيرنا هذا بعد الموافقة عليها من طرف مدير إدارة الصحة العمومية والعائلية، وتتضمن هذه القائمات على وجه الإشارة جريدة أهم الأشغال التي تتطلب ممارسة أو استعمال المواد السامة المبينة أعلاه على أنه يبين في قائمات خصوصية ما ذكر في عدد أنواع الفساد الذي يصيب الأجسام بسبب الجراثيم وهو المظنون تسببه عن تعاطي المهن إذا كان المصابون به قائمين عادة بالأشغال المحددة وكيفية بيانها في تلك القائمات ويحتمل أن تبين قائمة أخر العاهات المظنون كونها نتيجة من البيئة التعاطي فيها العمل او من الهيئة الخاصة التي يتطلب إنجاز الأشغال المحدودة بيان عددها ويجوز مراجعة القائمات المشار إليها في الفقرات المتقدمة وتتميمها بموجب قرارات يصدرها مدير الشغل والعمل والمسائل الاجتماعية”….
ويتضح من خلال هدا التعريف القانوني أن الأمراض المهنية هي تلك التي تتوفر على معيارين هما:
أ: أن يكون للمرض أسباب مهنية أي مرتبطة بظروف العمل وتنظيمه،
ب: أن يكون المرض المهني مبينا في قوائم تصدرها السلطة المختصة (إدارتا الشغل والصحة)
وقد اعتمدت السلطة المختصة عدة قرارات لتحديد لوائح الأمراض المهنية وتوسيعها تدريجيا، منها قرار صادر في 20 مايو 1967 تضمن 35 لائحة وآخر اعتمد بتاريخ 23 دجنبر 1999 مدد لائحة الأمراض المهنية إلى 86 جدول والقرار الحالي رقم 14-160 الذي صدر بتاريخ 21 يناير 2014 والذي ممد جداول الأمراض المهنية إلى 95 جدول.
فالجدير بالذكر أن منظمة العمل الدولية تتوفر بدورها على قائمة للأمراض المهنية يرجع تحيينها الأخير إلى سنة 2010(Liste des maladies professionnelles , BIT révisée en 2010) .(
ورغم تحديد هذه اللوائح في قرارات متخذة من طرف السلطة الحكومية المكلفة بالشغل وبالصحة، فقد اعتبر قرار صادر عن المجلس الأعلى بتاريخ 21 شتنبر تحت عدد 456 “إن الأمراض المهنية موضوع ظهير 31 ماي 1943 والقرارات التطبيقية له تم ذكرها على سبيل المثال وليس الحصر”.
وفي القرار عدد 361 صادر بتاريخ 12 أبريل 2017 (ملف اجتماعي عدد 874/5/2/2016) ورد بشكل ضمني “أن الأمراض المهنية وردت على سبيل المثال لا الحصر.”
> المرض أو الأعراض التي يمكن أن تكون لها صبغة مهنية (maladie ou symptômes pouvant avoir un caractère professionnel)
تنص المادة 324 ضمن الحالات التي يجب على طبيب الشغل أن يصرح بها للجهات المختصة “الأعراض أو الأمراض التي يمكن أن تكون لها صبغة مهنية”.
يمكن تعريف المرض ذي الصبغة المهنية ككل مرض تتسبب فيه ظروف العمل والمواد المستعملة وكيفية تنظيم العمل واستخدام التكنولوجيا، لكن لا يعتبر قانونا مرضا مهنيا لكونه لم يدرج ضمن قوائم الأمراض المهنية. إن هذا النوع من المرض الذي اكتفت مدونة الشغل بالإشارة إليه يساعد تتبعه على تطوير لائحة الأمراض المهنية وتحيينها.
> المرض (la maladie)
المرض في مفهومه العام والشامل هو “السقم أو الداء أو العلة أي كل حالة غير طبيعية تصيب الجسد البشري أو العقل البشري وتسبب انزعاجا، أو ضعفا أو اضطرابا في الوظائف، أو إرهاقا للشخص المصاب”. ويتميز تحمل هذا المرض – خلافا للمرض المهني – بكون تحمل التعويض يتم من طرف الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي.
4) حادثة شغل (accident du travail)
تعرف المادة 3 من القانون رقم 12-18 الصادر سنة 2014 حادثة شغل بكونها “كل حادثة، كيفما كان سببها يترتب عنها ضرر، للمستفيد من أحكام هذا القانون (…..) وذلك بمناسبة أو بسبب الشغل أو عند القيام به، ولو كانت هده الحادثة ناتجة عن قوة قاهرة أو كانت ظروف الشغل قد تسببت في مفعول هذه القوة أو زادت في خطورتها إلا إذا أثبت المشغل أو مؤمنه طبقا للقواعد العامة للقانون أن مرض المصاب كان سببا مباشرا في وقوع الحادثة”. ويعتبر هذا التعريف نسخة طبق الأصل للتعريف الذي تضمنته المادة 3 من الظهير الصادر في فبراير 1963 الذي غير من حيث الشكل ظهير 25/6/1927 حول التعويض عن حوادث الشغل.
وتضيف هذه المادة في فقرتها الأخيرة أنه يقصد “بالضرر في مفهوم هذا القانون كل إصابة جسدية أو نفسية تسببت فيها وأسفرت عن عجز جزئي أو كلي، مؤقت أو دائم، للمستفيد من أحكامه”.
وخلافا للأمراض المهنية التي لا تبرز إلا بعد فترة طويلة ابتداء من تعرض الأجراء لها، فإن وقوع حادثة الشغل يتسم بالفجائية والمباغتة. وتتميز كل من حادثة الشغل والمرض المهني بشرط علاقة التبعية والمساس بالجسد.
ثانيا: هل الإصابة بفيروس كورونا مرض مهني أم مرض له صبغة مهنية أم مرض غير مهني أم حادثة شغل؟
قبل الإجابة على هذا السؤال يتعين التطرق إلى آليات وكيفية تحمل المصابين بمختلف المخاطر المهنية سالفة الذكر. إن المشرع سعى من خلال تشريعاته إلى تحقيق هدفين يتمثلان من جهة في الوقاية من هذه المخاطر حفاظا على صحة الأجراء، ومن جهة أخرى إقرار تعويضات مختلفة للأجراء المصابين.
> الإصابة بفيروس كورونا ليست مرضا مهنيا ولا حادثة شغل
انطلاقا من التعاريف والمفاهيم القانونية السابقة لا يمكن اعتبار إصابة الأجراء بفيروس كورونا بأنه مرض مهني لكونه فيروسا عالميا ينتشر بسرعة عن طريق الاحتكاك والتقارب بين الأشخاص والعدوى ولا تسببه ظروف العمل ولا المواد المستعملة ولا الوسائل التكنولوجية. وقد يصاب الأجراء بهذا الوباء داخل أماكن العمل وفي وسائل النقل أو داخل بيوتهم أو في أي مكان آخر. إضافة لذلك، على المستوى القانوني لم يتضمن القرار الخاص بجدول الأمراض المهنية الأمراض المسببة بهذا الفيروس.
وعلى صعيد آخر، لا يمكن أيضا تكييف هذه الإصابة بأنها “مرض له صبغة مهنية” أو أعراضها مرتبطة بظروف العمل “نظرا لانعدام العلاقة السببية ولكون أعراضه لا تنتمي للأعراض التي يمكن أن تنجم عن بيئة العمل.
كما لا يمكن اعتبار إصابة العمال بهذا الفيروس حادثة شغل لكون المادة 3 من القانون رقم 12-18 الصادر سنة 2014 تقر بأن الحادثة، كيفما كان سببها «وذلك بمناسبة أو بسبب الشغل أو عند القيام به، ولو كانت هذه الحادثة ناتجة عن قوة قاهرة أو كانت ظروف الشغل قد تسببت في مفعول هذه القوة أو زادت في خطورتها”. إن اعتبار هذه الإصابة حادثة شغل، هل لحماية الأجير؟ لا نعتقد ذلك لأن الأجير المصاب سواء في إطار حوادث الشغل أو في الأمراض المهنية أو في الأمراض المرتبطة بالمهن أو في الأمراض بصفة عامة يستفيد من التعويضات حسب الحالات.
> آليات التعويض عن المخاطر المهنية
يقر التشريع الاجتماعي التعويض للأجراء الذين يصابون بالمخاطر المهنية. فالتعويض عن المرض يتم وفق الظهير الصادر في 27/7/1972 كما تم تعديله وتكميله والذي ينص على أداء التعويضات اليومية عن المرض، والقانون 65-00 حول مدونة التأمين الإجباري عن المرض.
وبالنسبة للتعويض عن حوادث الشغل، فقد كان التأمين عن إصابات العمل في ظهير 25/6/1927 الذي عدل شكلا بظهير 6 فبراير 1963 اختيارا باستثناء قطاع البناء والصفقات العمومية. وفي سنة 2000 التي شهدت مراجعة بعض أحكام ظهير 1927، أصبح التأمين عن حوادث الشغل إجباريا. وقد تم اعتماد نظام “جديد” للتعويض عن هذه الحوادث بالقانون 12-18 المعتمد سنة 2014.
وبالنسبة للتعويض عن الأمراض المهنية، فقد صدر ظهير بتاريخ 31/5/1943 تنطبق بموجبه على الأمراض الناشئة على الخدمة والصنعة مقتضيات الظهير الصادر في 25/6/1927 حول التعويض عن حوادث الشغل. وخلال إقرار إلزامية التأمين سنة 2000، تم أيضا التنصيص على هذه الإلزامية بالنسبة للأمراض المهنية. لكن بسبب ضغوط جهة ما، تم التراجع على هذه الإلزامية الأخيرة سنة 2002 وذلك بمراجعة المراجعة التي تمت سنة 2000. لكن القانون 12-18 نص في المادة 11 على أنه “تطبق أحكام هذا القانون على الأجراء والمستخدمين المصابين بأمراض مهنية طبقا للشروط المحددة في النصوص التشريعية والتنظيمية المتعلقة بالأمراض المهنية”، وأن ظهير 1943 الذي مدد تطبيق أحكام الظهير الصادر سنة 1927 لم يغير ولم يلغى. وهكذا أصبح التأمين عن الأمراض المهنية غير إلزامي. لكن تبقى مسؤولية المشغلين ثابتة في حالة إصابة الأجراء بأمراض مهنية وذلك طبقا لأحكام قانون الالتزامات والعقود.
وفي هذا الإطار تنص المادة 750 على أنه “يسأل المخدوم أيضا عن الحوادث والكوارث التي يقع ضحيتها الأجير الذي يعمل معه، حالة كونه يؤدي المهمة التي عهد إليه بها، إذا كان سبب الحادثة أو الكارثة راجعا إلى مخالفة أو عدم مراعاة رب العمل الضوابط الخاصة المتعلقة بمباشرة صناعته أو فنه”. وتفاديا للآثار السلبية التي قد يتعرض لها الأجراء نتيجة عدم التأمين عن حوادث الشغل والأمراض المهنية توجد 3 صناديق للعمل وهي: صندوق الضمان وصندوق الزيادة في الإيرادات وصندوق التضامن كانت تحت وصاية وزارة التشغيل إلا أنها ألحقت بالشركة الوطنية للتأمين وإعادة التأمين.
وفي إطار هذه المنظومة القانونية، فإن إصابة الأجراء بفيروس كورونا وتوقفهم عن العمل (توقيف مؤقت لعقد الشغل بسبب المرض) يعتبر مرضا غير مهني وليس حادثة شغل وبالتالي يجب التصريح بهم للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. لكن الدولة تحملت أداء تعويضات بديلة عن الأجور طبقا للقانون رقم 20-25 بسن تدابير استثنائية لفائدة المشغلين المسجلين في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي بتاريخ 23 أبريل 2020 وللمرسوم التطبيقي رقم 331-20 الصادر بـ 24 أبريل 2020 المتعلق بالاستشفاء والعلاج في المراكز العمومية.
وختاما، نشير إلى أن هناك تداخلا بين الأمراض المهنية والأمراض ذات الصبغة المهنية وحوادث الشغل. ولمواجهة آثار هذه المخاطر المهنية حاليا ومستقبلا، فإن دراسة لوائح الأمراض المهنية الحالية وتحيينها على ضوء التطورات العلمية والطبية والتكنولوجية وتحيين القوانين المنظمة للأمراض المهنية (ظهير 31/5/1943) كما تم تغييره وتعزيز الوقاية في أماكن العمل وملاءمة نظام طب الشغل مع المتغيرات الراهنة أصبحت ضرورة ملحة. كما يتوجب مراجعة أنظمة التعويض عن المخاطر في أفق تحسينها. كما يتعين تحديد لائحة الأمراض ذات الطابع المهني وتحويلها إلى أمرض مهنية ضمن الجداول المحددة بقرار الوزير المكلف بالشغل لكي تصبح لائحة الأمراض أكثر شمولية.
بقلم: أحمد بوهرو