التزمت الحكومة بتقديم قانون المالية التعديلي خلال الأيام القليلة القادمة، ويُمكن اعتبار التأخر في ذلك أمرا مقبولا على أكثر من مستوى، إذ يتطلب حدا أدنى من تَــوَضُّحِ معالم الظرفية الآتية سواء على الصعيد الوطني أو الدولي. لكن لحد الساعة لا يزال من الصعب على المختصين في العلوم التوقعية الإحاطةُ الدقيقة بالوضعية، حيث كلما تم الإعلان اليوم عن أرقام وإحصائيات، إلا وتم تجاوزها في اليوم الموالي.
وفي الواقع، لا يمكن حصر الحسابات إلا بعد مرور العاصفة والتخلص من وباء كورونا، بينما لا نزال بعيدين، للأسف، عن هذه المرحلة. وأفضل ما يمكن أن نتطلع إليه الآن هو التحكمُ في الوباء وتَعَلُّمُ التعايشِ معه خلال المرحلة الثانية التي تُفتحُ أمامنا.
فخلال المرحلة الأولى التي انطلقت مباشرةً بعد ظهور الوباء الذي تحول بسرعة إلى جائحة، كان الانشغال الأساسي كامِنًا في إنقاذ حياة المواطنات والمواطنين أولاً، مع ترجيح كفة الصحة على كفة الاقتصاد. وكل التدابير التي اتُّخذت خلال فترة الحجر الصحي تجد تبريرها في هذا الخيار الاستراتيجي. وعلينا الإقرارُ أن بلادنا قد عَبَرَت هذا الاختبار الأول بنجاح، على الرغم من بعض الهفوات والنقائص هنا وهناك.
هذا الخيار الذي لم يكن مِنْ مَــفــَــرٍّ عنه، للتذكير، كنا ندرك جميعا عواقبه على المستويين الاقتصادي والاجتماعي. مع العلم أن جميع بلدان العالم وجدت نفسها عموما في نفس الوضعية. فالأرقام التي أعلنها بنك المغرب على إثر انعقاد مجلسه بتاريخ 16 يونيو الجاري، مقلقة للغاية، ومن المحتمل أن تزداد خطورة من هنا إلى متم السنة.
هكذا، يتوقع بنك المغرب تراجعا في معدل النمو بنسبة 5.2%، مع ارتفاعٍ فيه خلال سنة 2021 بمعدل 4.2% على أساس فرضية موسم مائي ممطر، وهو ما يعني أننا لن نتمكن من العودة في نهاية سنة 2021 إلى المستوى الاقتصادي الذي كُنَّا عليه في سنة 2019.
من جهة أخرى، كل المؤشرات الماكرو اقتصادية، باستثناء معدل التضخم الذي سيظل محصورا في مستوى أقل من 1%، ستعرف تدهورا لم يسبق له مثيل.
هكذا، يُتوقع أن تسجل الصادرات تراجعا بنسبة 15.8% على العموم، ويشمل ذلك تقريبا مختلف القطاعات، فيما ستنخفض الواردات بمعدل 10.7% وذلك أساسا بالنظر إلى انخفاض الفاتورة الطاقية وتراجع المشتريات من مواد التجهيز.
أما عائدات السياحة، فيُتوقعُ أن تسجل بدورها تراجعا مُدَوِّيًا يصل إلى 60%، وستنخفض تحويلات المغاربة المُقيمين بالخارج بحوالي 25%، كما أن الاستثمارات الخارجية المباشرة ستنخفض بأكثر من 50% لتعود إلى ما يُكافئ 1.5% من الناتج الداخلي الخام.
في نفس الوقت، سيعرف عجز الميزانية، دون احتساب موارد الخوصصة، تفاقما، إذ سينتقل من 4.1% من الناتج الداخلي الخام سنة 2019 إلى 7.6% سنة 2020، ويرجع ذلك إلى انخفاض الموارد الجبائية وزيادة النفقات. وبدورها سترتفع مديونية الخزينة من 65% من الناتج الداخلي الخام سنة 2019 إلى 75.3% سنة 2000.
على المستوى الاجتماعي، وفي انتظار الإعلان عن نتائج الربع الثاني من السنة الجارية من قِبل المندوبية السامية للتخطيط، والمتعلقة بالتشغيل، فالمؤشرات الأولية تدل على أن البطالة ستعرف ارتفاعا خلال هذه السنة، لا سيما مع دخول نحو 300 ألف وافد جديد إلى سوق الشغل.
إلى ذلك، يتضح من خلال بحثٍ قامت به المندوبية السامية للتخطيط من الفاتح إلى الثالث من شهر أبريل الأخير، لأجل قياس انعكاسات الجائحة على التشغيل، أن هناك فقداناً لحوالي 726 ألف منصب شغل، وهو ما يمثل حوالي 20% من اليد العاملة النشيطة في المقاولات المُنظمة.
تأسيسا على ذلك وغيره، سيأتي قانون المالية التعديلي في هذه الظرفية المتسمة بانكماشٍ ولا يقينٍ كبيرين. فهل يا ترى سوف تتعامل الحكومة مع هكذا أوضاع بنفس الشجاعة التي أبانت عنها خلال المرحلة الأولى من تدبير الجائحة؟ أم أنها سوف تكتفي فقط بـ “الحد الأدنى من الخدمة” وبمجرد “التعديل” في انتظار المفاجأة التي قد تأتي وقد لا تأتي.
إننا نعتقد، بكل موضوعية، أن خطورة الوضع ينبغي أن تشكل حافزا لاستبعاد حلول الحد الأدنى، فالأمر لا يتعلق بإدخال نوع من الروتوشات على النفقات وتحويل أبواب ميزانياتية إلى أخرى أو اللجوء إلى تقشفٍ غيرِ مُجْــدٍ لأجل التكيف مع مستوى الموارد الجارية.
على العكس تماما، بلادُنا في أمس الحاجة، اليوم، إلى أكثر من ذلك: الإصلاح وإعادة البناء، معالجة الداء والانطلاقة الاقتصادية، مع استخلاص الدروس، كل الدروس، من أخطائنا السابقة وهشاشاتنا المتعددة، ومِنْ اختلالاتنا البنيوية والممنهجة.
وبالنظر إلى طبيعة الأزمة التي نمر منها، فإن على التدابير التي ينبغي اتخاذها أن تهم، في نفس الوقت، العرض والطلب.
إن بلادنا في حاجة إلى تغيير الاتجاه، بدءًا بإعادة النظر في المنهجية. فرئيس الحكومة الذي تلقى، بطلبٍ منه، أزيد من 20 مذكرة اقتراحية من لدن الأحزاب السياسية والمنظمات النقابية، عليه أن يبرهن على انفتاحِهِ وانفتاح حكومتِهِ، وذلك من خلال إدماج عدد من المقترحات العملية والوجيهة في مشروع القانون المالي التعديلي، كما أن الوقت قد حان من أجل الاستماع إلى الفرقاء الاجتماعيين بغرض إيجاد توافقات إيجابية وإعطاء الحوار الاجتماعي مدلوله الحقيقي لتوفير الشروط الملائمة للسلم الاجتماعي المستديم.
كما أن الوقت مناسب لإطلاق الإصلاحات الكبرى وإعطاء دفعة قوية للإصلاحات الجارية. وعلى هذا الأساس، فالإصلاح الجبائي ينبغي ألا ينتظر أكثر.
فالحكومة موجودة لأجل الاقتراح والتحفيز وإبداع الحلول وجعل البلد في وضعية تعبئة دائمة، والمستقبل يتعين الإعداد له منذ اليوم، حتى وإن اقتضى ذلك نوعا من الألم… العادل.
بقلم: د. عبد السلام الصديقي