بحسب دراسات عالمية سجلت أن الناشر في الغرب يعتمد على سياسات الدعم الحكومي بما نسبته 75 في المئة، وهي التي تقتني الكتب وتدعم سبل توزيعها وشرائها، بينما تكون نسبة الـ25 في المئة المتبقية على عاتق القارئ الذي يقوم بشراء الكتاب من الناشر مباشرة أو من منافذ البيع المختلفة.
في مقابل ذلك فإن الناشر العربي يعتمد على القارئ العربي كمستقبل للكتاب بنسبة 90 في المئة، أما النسبة الباقية فتكون لعوامل أخرى. وهذا ما يعني أن مهنة نشر الكتاب تجعل الناشر في لجة المخاطر التجارية وتقلباتها.
صناعة متكاملة
يرى كثير من الناشرين أنه لا يمكن النظر إلى الكتاب في إطار قيمته المعرفية فحسب، التي هي بالضرورة أهم قيمة، ويؤكدون أن له قيمة موازية تكمن في أهميتها التجارية الكبرى التي تشكل أحد الحوامل الهامة للتطور الحضاري والمعرفي والاقتصادي لأي دولة ومجتمع في العالم. فتأسيس صناعة متكاملة للكتاب أمر تسعى إليه كل المجتمعات الإنسانية، وسعيا للوصول إلى هذا الهدف تقوم بتنظيم المهنة وإصدار ما يلزم من قوانين وإجراءات تفعل صناعة الكتاب وتسير بها إلى الأمام.
ومنذ أن بدأ عصر الثورة الصناعية في أوروبا وتطور علوم وفنون الطباعة زاد الاهتمام بصناعة الكتاب وجذب إليه العديد من رؤوس الأموال الذين طوروا عبر أجيال صناعة الكتاب والنشر. وفي هذا الإطار، وجدت منذ حوالي الخمسمئة عام فكرة المعارض، التي انتظمت لأول مرة عام 1556 في فرانكفورت في ألمانيا. وصار هذا المعرض الأعرق في التاريخ الإنساني.
في الوطن العربي وجدت مهنة الوراقين والناشرين الذين كانوا ينشرون الكتب وينسخونها، وتوسعت نشاطاتهم خاصة في عهد تطور الترجمة. لكنها لم تصبح صناعة إلا مع دخول المطبعة إلى مصر والشام في بدايات القرن التاسع عشر، وسارت كما في غيرها من البلاد في حال متصاعدة من التطور حتى وصلت في مرحلة خمسنيات القرن العشرين إلى مراتب هامة خاصة في بيروت والقاهرة.
لكن الحال لم يستمر على هذا المنوال، فقد أكدت العديد من الدراسات الحديثة أن صناعة النشر لم تكن في وضع جيد وكانت تعاني الكثير من العوائق الجغرافية والرقابية والترويجية والقانونية خاصة منذ بداية الألفية الثالثة، ومما زاد الوضع سوءا تفشي وباء كورونا المستجد الذي وضع الصناعة كلها في مهب الريح.
ومن المعلوم أن صناعة النشر لا تعني مهنة التأليف أو الترجمة فحسب، فهنالك مهن أخرى مكملة لها تشمل العديد من المجالات منها: تصميم الأغلفة، والتي يقوم بها فنانون تشكيليون ورسامون، وكذلك هنالك أعداد كبيرة من المنضدين الذين يصفون المؤلفات والمترجمات في صياغات محددة وفق أحدث طرق تنسيق صفحات الكتاب، كما أن مهنة تجارة الورق تتداخل مع صناعة نشر الكتاب، وكذلك تجارة بيع الأحبار وشحن الكتب والترويج لها وتقديمها في برامج إعلامية وإعلانية خاصة، وصولا إلى بيعها في منافذ البيع والمكتبات الخاصة في كل أرجاء العالم. وبالتالي ستكون حرفة الكتاب والنشر صناعة متكاملة تتداخل فيها العديد من المهن والحرف.
العصرنة وتحديات النشر
وجود عصر النت والتوسع في استعمال مواقع التواصل الاجتماعي لم يكن عاملا إيجابيا لصناعة النشر الورقي التقليدي، فإمكانية التواصل عبر هذه المواقع وبسرعة وسهولة، جعل مسألة تبادل الأفكار، ومنها الكتب، متاحة للجميع ومن الجميع، الأمر الذي أدى إلى ظهور منابر نشر جديدة عبر منصات إلكترونية عصرية، حققت رواجا ومتابعة خاصة لدى جيل الشباب.
مع انتشار الإنترنت ظهرت متاعب عديدة واجهت الناشر العربي وجعلته في مواجهة أخطار مالية وتجارية كبيرة، أولها صغر كمية العدد المطبوع الذي لا يتجاوز المئات، وهذا ما يعني تكلفة مالية أكبر نتيجة عدم وجود مردود مالي مواز لها يشكل عائدا ماليا مناسبا ومعوضا.
كما تحضر موضوعة فقدان تنظيم قانوني فعال لحقوق الملكية الفكرية يحمي حقوق الناشر من القرصنة الفكرية، الأمر الذي يعني فقدان الناشر التحكم بمنتجه واستغلاله من قبل قراصنة المهنة وإيجاد طبعات مستنسخة تحقق لهم مرابيح مالية جيدة دون تحمل تكاليف مالية تدفع للمؤلفين والمترجمين وسواهم. مع العلم أن كل الدول العربية انضمت لمعاهدات دولية في هذا الاتجاه وتمتلك قوانين داخلية للملكية الفكرية لكنها غالبا غير مفعلة.
كما يواجه الناشرون العرب مشكلة كبرى في عدم تعمق ظاهرة القراءة في مجتمعاتنا وعدم وجود مبادرات حكومية أو أهلية قوية تؤكد على هذا التوجه، إلا من خلال بعض المحاولات الخجولة. يضاف إلى ذلك عدم وجود آليات ترويج مناسبة للكتاب وإغراق السوق على المنتجات الاستهلاكية، ويضاف إلى ذلك صعوبات الشحن بين البلدان العربية وكذلك ارتفاع التكاليف وعدم منح إعفاءات جمركية أو مالية لأصحاب هذه الصناعة.
ومن المشاكل الأخرى أيضا أن منافذ بيع الكتاب قد تقلص عددها في معظم المدن العربية حيث أغلقت الكثير من المكتبات وتحولت إلى مقاهي إنترنت أو محلات أخرى تدر على أصحابها أرباحا مالية أكبر. وتظهر مشكلة كبرى لدى الناشر العربي وهي مسألة الرقابة، التي تتغير من دولة إلى أخرى بحيث لا يمكن للناشر معرفة رد فعل الرقيب في بلد محدد نتيجة التغير الدائم في أمزجة تلك الدول، والذي ينعكس بالضرورة على إمكانية قبول أو رفض الكتاب وبالتالي لإمكانية وصوله إلى القارئ في ذلك البلد، وتحقيق حالة التفاعل والبيع وبالتالي تحقق العائد التجاري منه.
إن حجم النشر في الوطن العربي يراوح بين 40 و60 ألف عنوان تنشر في الكتب والدوريات والسلاسل العلمية. تحتل الكتب العلمية فيها ما يقارب الـ20 في المئة. وهو رقم أقل بكثير من المعدلات الموجودة في دول عالمية كثيرة. وإضافة إلى كل ذلك يظهر العائق الأهم وهو ضعف القوة الشرائية للقارئ، الذي صار موضوع الكتاب لديه من الأمور الأقل أهمية وحلت مكانه حوائج حياتية أكثر إلحاحا كالغذاء والسكن والتعليم.
المعارض الدولية
أمام هذا الواقع كان لا بد من إيجاد وسائل حماية ودفع لصناعة النشر، فكانت آلية النشر الإلكتروني التي ساهمت إلى حد جيد بتجاوز عوائق نشر الكتاب الورقي خاصة في المجال الأدبي وتحديدا الروائي، وكذلك في جانب الأبحاث الأكاديمة. لكن الثابت أن حجم الأمية الكبير في العالم العربي وجهل الكثيرين بكيفية التعامل مع أساليب القراءة على الحاسوب وشبكات النت يعيق تنفيذ هذه الفكرة وتطورها ويعيد الموضوع إلى الكتاب الورقي مجددا.
لا شك أن النشر الإلكتروني تطور في العقد الأول من القرن الحالي بصورة كبيرة، وحقق حضورا جيدا على مساحة النشر لدى القارئ العربي، وهو يعتمد في ذلك على أسلوبين، الأول منهما يتمثل في نشر المادة بصيغة إلكترونية بحيث ينشر الكتاب كاملا بصيغة ذات تصميم شكلي محدد وخاص، ويكون الإصدار أصليا للمادة. والشكل الثاني يكمن بنشر الكتاب بصيغة pdf.
وقد حقق النشر الإلكتروني قفزات نوعية في العديد من المجالات وصارت له منصاته ومراكزه التي ساهمت بالتوسع فيه. تقول عنه ضحى الرفاعي مديرة تطبيق رفوف أنه “خلال مارس 2020 بلغت نسبة النمو 200 في المئة مقارنة بالشهر الذي سبقه، وحققت الروايات نسبة نمو بمقدار 250 في المئة، وحققت كتب علم النفس نسبة نمو 123 في المئة، بينما حققت كتب السيرة غير الذاتية نسبة نمو 243 في المئة”.
أما في الكتاب الورقي، وقياسا على تجارب عالمية، في ما يخص معارض الكتاب الورقية، سنجد أن معرض فرانكفورت في ألمانيا يحقق حضورا حاسما، فهو الأكبر في العالم أسس بالتوازي مع تطور حركة الطباعة في ألمانيا. ويعقد في شهر أكتوبر من كل عام وتشارك به معظم دول العالم متمثلة بآلاف دور النشر. فقد بلغ عدد زوار دورة عام 2018 مئات الآلاف أتوا من مختلف دول العالم.
أما عربيا فيتعبر معرض بيروت للكتاب أعرق معرض عربي، حيث انطلق في الثالث والعشرين من أبريل عام 1956 في الجامعة الأميركية ببيروت ويقيمه النادي الثقافي العربي بالتعاون مع اتحاد الناشرين اللبنانيين. في الشهر الحادي عشر من كل عام. وصار صاحب شهرة ومكانة كبيرة ويزوره سنويا عشرات الآلاف وبمشاركة الآلاف من العناوين.
وفي متابعة رياضية وبلغة الأرقام فإن 183 ألف عنوان ظهرت في الدورة الأحدث للصالون الدولي للكتاب في الجزائر بمشاركة 298 دارا جزائرية. أما معرض الشارقة الدولي الذي صار له وزن إقليمي هام مع الصالون الجزائري فقد زاره في دورته الأحدث 2.2 مليون تقريبا بمشاركة أكثر من ألفي دار نشر. وفي معرض أربيل بالعراق شاركت في الدورة الرابعة عشرة 300 دار نشر من 21 دولة. أما معرض تونس للكتاب وبدورته الخامسة والثلاثين فقد شارك فيه 319 ناشرا من 23 دولة، أما معرض الرياض للكتاب فقد زاره في دورة عام 2019 ما يزيد عن مليون ومئتي ألف زائر.
معرض القاهرة الدولي للكتاب يعتبر من أهم المعارض في المنطقة. ظهر عام 1969 واعتبر عام 2006 ثاني أكبر معرض في العالم بعد فرانكفورت ويزوره سنويا أكثر من 2 مليون زائر، أما في الهند البلد الذي يقارب سكانه المليارونصف المليار شخص، فهنالك معرض كاليكوتا أكبر معرض للكتاب في آسيا، وكذلك معرض نيودلهي أقدم معارض الهند.
وفي إيطاليا ينظم معرض توسكانيا الذي يعتبر أهم معارض كتاب الطفل في العالم وتشارك به المئات من دور النشر ويزوره الآلاف من دول العالم. وخلال دورات هذه المعارض العالمية للكتاب سواء كانت عامة أو تخصصية، تتحقق مصلحة الناشر والقارئ في تجاوز العوائق التي تعترض طريق تطور صناعة النشر وتصل الناشر بالقارئ وتحقق حالة التفاعل بينهما ولو في حدها الأدنى. وهذا ما يعني ضرورة دعم هذه المعارض لكونها طوق النجاة الأخير الذي يمكن من خلاله دعم صناعة النشر وتفعليها للمحافظة على العلاقة بين طرفيها وتحقيق ما هو مطلوب منها. ويطلق أصحاب دور النشر الصوت تجاه القراء ليكونوا متفاعلين مع المعارض الدولية المتعددة للكتاب التي تقام عادة في آواخر العام تزامنا مع افتتاح المدارس والجامعات، كونه يشكل الملاذ الأخير للتواصل بينهما وتحقيق التواصل الصحيح.