أبى الوباء اللعين في آخر أنفاسه إلا أن يسرق منا أحد الأصوات الجميلة في مجال الأداء الغنائي: الفنان المغربي محمود الإدريسي، في عمر يناهز الثانية والسبعين.
على امتداد عقود، ظل الفنان الراحل مخلصا للإبداع الغنائي الأصيل والراقي، كلمة ولحنا وأداء.
برزت موهبته في الغناء منذ السنوات الأولى من عمره، حيث فرض ذاته وتميزه في برنامج المسابقات التلفزيوني “مواهب” الذي كان يهتم باكتشاف المواهب الفتية في مجال الغناء.
منذ ذلك الحين، بدأ يشق طريقه الاحترافي بثبات، إذ استطاع أن يجد له موقعا متميزا بين فطاحلة الغناء المغربي.
في ذلك الإبان، أي أواخر السبعينات وبداية الثمانينات، كان من الصعب جدا على أي فنان أن يسجل أغنية في الإذاعة والتلفزة، بالنظر إلى التحكيم الصارم الذي كانت تخضع له الإنتاجات الغنائية قبل الترخيص بتقديمها للجمهور.
وبالتالي لم تصمد سوى الأصوات الفنية الحقيقية، من قبيل صوت فناننا الراحل محمود الإدريسي.
كانت أول أغنية قام بأدائها وتسجيلها هي أغنية “يا ليل طل” وهي من الشعر الأندلسي ومن لحن الموسيقار الراحل عبد القادر الراشدي، وتتطلب قدرات هائلة في أدائها، وتعتبر محكا حقيقيا لأي موهبة غنائية، سيما وأنها ملحنة وفق مقامات صعبة، لكن فقيد الأغنية المغربية، نجح في أدائها بسلاسة وكسب بالتالي ثقة مختلف الملحنين الذين كان لهم إسهام حقيقي في تكريس الأغنية المغربية المعاصرة، بعد أن كانت متأثرة بالاتجاه المشرقي.
أدى الراحل محمود الإدريسي أغاني من ألحان العديد من الفنانين المغاربة، على اختلاف أساليبهم الإبداعية، كما انفتح على الشرق وأدى أغاني من ألحان نخبة من الفنانين الموموثين، مع ذل فإن هذا لم يمنعه من أن يظل وفيا للمدرسة المغربية في الأداء الغنائي، غنى من شعر فتح الله المغاري ومن لحن عبد القادر الراشدي “محال واش ينساك البال”، ومن شعر أحمد الطيب العلج ومن لحن أحمد العلوي “يا ترى يعود”، ومن شعر علي الحداني ومن لحن عبد الرفيق الشنقيطي “دمعة الفراق”.. ولعل آخر ما أداه، كان من شعر حميد البوعجيلي ومن لحن بدر الدين الوهابي “كنت تفاكد فينا”.
إلى جانب أدائه الغنائي، كان الراحل محمود الإدريسي عازفا جيدا على آلة العود، وهي مهارة اكتسبها بفضل موهبته الأصيلة، وصقلها بعد ذلك بدراسة الموسيقى دراسة علمية، وبالتالي لم يكن مفاجئا أن يخوض مجال اللحن، وإن كان مقلا فيه، ولعل أبرز ما لحنه أغنية ساعة سعيدة لمؤلفها مصطفى بغداد، رفيف دربه في الفن والنضال.
أدى الراحل محمود الإدريسي أغاني تتطرق لمختلف المواضيع والقضايا: الاجتماعية، الوطنية، الدينية، العاطفية.. وكان أداؤه منسجما مع كل غرض من هذه الأغراض، لأنه كان يؤديها بأحاسيسه وعواطفه، لم يكن يغني من أجل الكسب المادي، بقدر ما أنه كان يغني بهدف تحقيق متعة فنية وجمالية، وإيصال رسالة هادفة.
كان حاضرا بعطائه الفني في مختلف المحطات الكبرى التي شهدتها بلادنا، من قبيل المسيرة الخضراء وغيرها.
كان يحسن اختيار ما يؤديه، حيث لم يكن يهمه تحقيق تراكم، بل كان يسعى دائما إلى تقديم منتوج إبداعي راق وله قدرة على الصمود والبقاء، على خلاف ما ينتج حاليا من طرف العديد من فناني الجيل الجديد، حيث أن تكنولوجيا الاتصال الرقمي بات يقاس بواسطتها مدى نجاح هذا الفنان أو ذاك، وحيث أن كل أغنية لم تعد تصمد في الغالب أكثر من بضعة أشهر، يطلقون عليها أغنية الموسم، ثم ينتهي دورها.
كان الراحل محمود الإدريسي منفتحا على الإبداعات المبتكرة للفنانين الشباب، وكان يشجعهم على تقديم منتوج جيد.
إلى جانب نشاطه الفني المحترم، كان محمود الإدريسي فاعلا جمعويا، ناضل طويلا من أجل الدفاع عن حقوق الفنانين، انخرط في النقابة الحرة للموسيقيين المغاربة، وتحمل المسؤولية في مكتبها، حيث شهدت هذه النقابة إبان ذلك، أزهى فتراتها، وتمكنت من تنظيم ملتقيات دولية وحفلات تكريم فنانين من داخل الوطن وخارجه، بالموازاة مع الترافع لأجل تنظيم المهنة وتحقيق مكتسبات حقوقية للفنانين الموسيقيين.
كان المرحوم محمود الإدريسي متواضعا وكان يحسن التواصل مع الجميع، ففي كل مرة كنا نتصل به للحصول منه على تصريح بخصوص قضية فنية أو ثقافية ما، إلا وكان يستجيب لذلك برحابة صدر.
كانت أحاديثه عادة ما تتسم بالصراحة والتلقائية، وتلامس صلب الموضوع.
من بين مشاريعه التي كان قد أفصح عن رغبته في إنجازها، تقديم أغانيه القديمة بتوزيع جديد.
***
محطات من حياة الراحل محمود الإدريسي
البداية
صغيرا، كان محمود يصطحب والده إلى جامع “أهل فاس”، وهناك كان يشده صوت المقرئ عبد الرحمن بنموسى بأسلوبه المغربي الخاص في تلاوة القرآن، وهي من أول الأصوات التي أثرت في مسيرته الفنية، التي انطلقت منذ مرحلة دراسته الإعدادية بمدرسة “البطانة” بمدينة سلا، حيث كان محمود يشارك بامتياز في كل الأنشطة الفنية بما فيها الغناء، وشجعه جمال صوته وموهبته الفنية آنذاك على الالتحاق بالمعهد الوطني للموسيقى عام 1964 في اختصاص التمثيل المسرحي. وأعانته هذه التجربة كثيرا في مشواره، فبفضلها استطاع محمود التغلب على خجله. وكان من أساتذته في المعهد كل من أحمد الطيب العلج وفريد بنمبارك وعبد الوهاب أكومي الذي كان يدرسه فن الموشحات.
الانطلاقة الحقيقية
أولى تجاربه الغنائية كانت عام 1964 خلال إحدى حفلات المعهد، حيث أتيحت له فرصة الغناء أمام الجمهور، وأدى محمود حينها موشح “يا ليل طل” وبعض أغاني محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش رفقة فرقة “الخمس والخمسين” التي كان يترأسها آنذاك الطاهر الزمراني. وبفضل أدائه الجميل، أمتع محمود الحضور الذي كان من ضمنه الملحن عبد الله عصامي، الذي كان له الفضل الكبير في التحاق محمود بالإذاعة آنذاك بعد نجاحه في الاختبار الصوتي مع الموسيقار أحمد البيضاوي، وتواصلت تجربة محمود مع المجموعة الصوتية للفرقة الوطنية لـ11 عاما، ما بين 1965 و1976، غنى فيهم خلف أشهر المطربين أمثال محمد فويتح وعبد الوهاب الدكالي. وتخللت هذه التجربة ظهور محمود كمطرب منفرد منذ سنة 1969 بفضل أغنية “يا ملكي يا بلادي” التي قدمها له الموسيقار عبد النبي الجيراري، تلتها بعض الأغاني التي قدمها له الفنان وعازف القانون صالح الشرقي.
سنة 1970، غنى محمود أولى أغانيه بالدارجة المغربية بعنوان “نبدا باسم الفتاح” كلمات أحمد الطيب العلج وألحان عبد القادر الراشدي. وتعامل محمود في تلك الفترة مع العديد من الملحنين، نذكر منهم: عبد القادر وهبي، حميد بن براهيم وعبد السلام عامر .. أما الأغنية التي وقعت على نجاح محمود الإدريسي وشهرته فهي أغنية “يا بلادي عيشي” من ألحان الموسيقار محمد بن عبد السلام. ولهذه الأغنية قصة طريفة، فقد كان عبد السلام منذ بضعة أشهر ضيفا والفرقة الوطنية في قصر الملك الحسن الثاني بالرباط، وأعجب حينها الملك بحسن أدائه وجمال صوته فأثنى عليه، غير أن محمود وبحديثه مع الملك نسي يده في جيبه مرتكبا خطأ بروتوكوليا فادحا، خاصة وأن الحسن الثاني انتبه للحادثة وطلب أن لا تعاد استضافة أناس لا تأبه بالبروتوكول. وكان آنذاك الملحن محمد بن عبد السلام الوحيد الذي وقف إلى جانب محمود واعدا إياه أن يدخل للقصر من جديد في غضون شهر ولحن له أغنية “يا بلادي عيشي”، وبالفعل عاد محمود بعدها ليغني في رحاب القصر الملكي بفضل هذه الأغنية.
الانفتاح على المشرق
وفي السبعينات كانت لمحمود العديد من الجولات الفنية قادته للمشرق والمغرب، حيث تعامل مع العديد من الفنانين نذكر منهم خصوصا محمد الموجي الذي لحن له أغنيتين، والعديد من الملحنين الآخرين من ليبيا والكويت والعراق. ثم وفي فترة الثمانينات، بدأ محمود في تلحين أغانيه بنفسه. ومن أشهر ما غنى في تلك الفترة نذكر: “ساعة سعيدة” كلمات مصطفى بغداد، “اصبر يا قلبي”، “بغى يفكرني فاللي فات”، وغيرها. كما لحن لغيره من الفنانين: لطيفة رأفت في أغنية “الحمد لله”، نعيمة سميح في أغنية “شكون يعمر هذا الدار”، البشير عبدو في “الدنيا بخير”، محمد الغاوي في “اللي علينا أحنا درناه”، فلة الجزائرية في “فتحو الأبواب”، وغيرها.
رحم الله الفقيد وإنا لله وإنا إليه راجعون.
< عبد العالي بركات