تعددت في الأيام الأخيرة رسائل وإشارات المملكة بشأن موقفها الثابت من القضية الفلسطينية ودعمها المستمر للنضال الوطني المشروع للشعب الفلسطيني، ويصر المغرب أن يذكر بتميز موقفه ونهجه وأسلوبه عن باقي الدول العربية، كما كان الأمر عليه دائما.
على المستوى السياسي والتاريخي والعاطفي والمبدئي، للمغرب والمغاربة صلات عميقة ومتفردة بفلسطين والقدس منذ قرون، وتؤكد ذلك الوقائع والأحداث والأفعال الملموسة، وأيضا الأمكنة والسير وحكايات الأشخاص، ومن ثم هو ليس في حاجة اليوم إلى إقامة دليل جديد.
ربما السياقات ومعادلات الأوضاع تفرض صعوبات وتعقيدات، وربما تبدلات المنهجيات وموازين القوى تستدعي اختيارات خاصة، ولكن الثوابت والقناعات مستمرة، والمغرب ما فتئ يسطر على ذلك بألوان الوضوح والتدقيق.
الملك قدم الدليل عبر حرصه على أدق تفاصيل الأسلوب والسلوك خلال الفترة الأخيرة، ذلك أنه استمر في التواصل مع القيادة الرسمية الفلسطينية، ويذكر، كل مرة بثوابت الموقف المغربي، وحتى لما تباحث مع نتيناهو جدد له التأكيد بصريح القول على”الموقف الثابت والذي لا يتغير للمملكة المغربية بخصوص القضية الفلسطينية، وكذا الدور الرائد للمملكة من أجل النهوض بالسلام والاستقرار في الشرق الأوسط”، وأبلغ الرئيس الفلسطيني أيضا حرص المغرب وعاهله على هوية القدس وحرمة المسجد الأقصى، وعلى عزمه دعوة لجنة القدس للانعقاد، والسعي لتحيين هياكل وكالة بيت مال القدس وضخ نفس جديد في عملها.
كل هذا يبرز أن المغرب لم يقايض القضية الفلسطينية بالاعتراف الأمريكي بمغربية الأقاليم الجنوبية، ولكنه يعرض تدبيرا مختلفا يسعى من خلاله حماية مصالحه الوطنية وحفظ وحدته الترابية، وفِي نفس الوقت التمسك بمبادئه التاريخية الراسخة، وهي جدلية ليست سهلة أو بسيطة، وإنما تمثل رهانا كبيرا يصر المغرب على الانتصار فيه.
المغرب لا يعتبر تحديات العلاقات الدولية واصطفافات الدول ضمن معادلاتها المعقدة أمرًا بسيطا أو يخلو من مشكلات، ولهذا هو يحاول اليوم التحرك بكثير من اليقظة والاحتياط، وبالحرص الجدلي على مصالحه الوطنية وثوابت مواقفه العربية والإقليمية والعالمية، لكن من يصرون على اعتبار كل ما يحدث أمامنا وحوالينا مجرد لعبة مقايضة أو يقرنون بين المصالح الوطنية والمبادئ، أو يذهبون حتى تبخيس ما يتحقق من مكاسب واضحة للقضية الوطنية، هم الذين يعتبرون أوضاع العالم اليوم وموازين القوى مجرد نزهة خالية من صراعات وضغوط متبادلة ومصالح.
الإمساك بالعقل واعتماد مقاربات واقعية والسعي المستمر لإيجاد المخارج والبحث عن البدائل، هي كلها منهجيات ليست اليوم بلا مبرر وجود.
الموقف المغربي اليوم يتطلب الإسناد والدعم ليكتسب الزخم الضروري، وليكون ذلك الدعم نفسه أداة ضغط لتحقيق الأهداف الوطنية والإقليمية، وهذا الإسناد يجب أن يكون وطنيا أولا، لأن الانتصارات الديبلوماسية لفائدة الوحدة الترابية تتقوى دائما بقوة الجبهة الوطنية والمجتمعية الداخلية.
وهنا يجب أن تتاح للقوى السياسية الوطنية ذات الجدية والمصداقية فرص ومجالات العمل والتأطير والحضور لتعزيز الاصطفاف الوطني حول القضية الوطنية، كما يجب الاعتماد على الإعلام الوطني الممتلك للخبرة والمعرفة ووضوح النظر والأفق ليساهم في تقوية الزخم والشرح والتأطير والمعنى للمواقف المغربية.
وفِي السياق ذاته، لا بد أن يتوجه المغرب نحو الفضاء العربي، في هذه المرحلة بالذات، للتواصل والتفسير والتفاعل، وللارتباط بالرأي العام والشعوب والنخب الثقافية والإعلامية والسياسية وصناع الرأي، وذلك ضمن مقاربة تقوم على التوضيح وتقديم النهج المغربي المختلف، والذي يمسك بالمصالح الوطنية والثوابت المبدئية، بشكل جدلي يميزه عن باقي الدول العربية.
لقد سجل المراقبون أن بلاغات الديوان الملكي والمواقف الرسمية للمملكة كانت منتبهة لأدق التفاصيل في المضامين والصياغات، ولم تكن الكلمات اعتباطية أو بلا دلالات، وحتى الشكليات البروتوكولية والإجرائية عند المباحثات الهاتفية أو في الاستقبالات الرسمية أو في الخطب المتبادلة أو في تسميات الوثائق الموقع عليها، كل ذلك كان يبنى وفق رؤى وترتيبات تستحضر كل تفاصيل الانسجام والبلاغة، ولم يكن أي شيء يترك للصدفة.
كل هذا، يبرز اختلاف المغرب عن دول عربية أخرى في العلاقة بالقضية الفلسطينية، واختلاف ما قام به المغرب عن الذي أقدمت عليه دول عربية قبله، وأيضا يبرز الحرص الكبير للمملكة على التعبير للجميع عن مواقفها الثابتة من فلسطين وشعبها، وإصرارها المستمر على الإعلان عن ذلك وضوحا وجهارا، من دون أن ننتظر إذنا من أحد.
< محتات الرقاص