على وقع أحداث ومستجدات مهمة ومتسارعة تودع تركيا 2020، سنة استثنائية، مليئة بالاختبارات لمدى قدرتها واستعدادها على التعاطي مع تقلبات غير متوقعة أفرزها، بالدرجة الأولى، داخليا تفشي وباء “كوفيد-19” واتساع رقعة المعارضة، وخارجيا تدبير أزمات حساسة لعل أبرزها الصراع على مصادر الطاقة شرق المتوسط وانعكاساته على العلاقات مع الاتحاد الأوروبي؛ والتنافس مع روسيا بشأن قضايا إقليمية إستراتيجية، وأيضا استشراف مستقبل علاقاتها مع الولايات المتحدة في ظل الإدارة الأمريكية الجديدة.
طيلة سنة 2020، كان على السلطات التركية التعاطي مع ملفات حيوية أثرت في مجريات الأحداث مع تصاعد الدعوات إلى تنظيم انتخابات مبكرة أججتها تداعيات فيروس “كورونا” على مختلف مناحي الحياة السياسية والاقتصادية، وأدوار تركيا وسياساتها الخارجية على أكثر من جبهة، ما أدخلها في دوامة من الشد والجذب مع قوى إقليمية ودولية؛ وجعلها تتصدر، غير ما مرة، واجهة الأحداث الدولية.
فتركيا التي أصرت، في ما تعتبره حقها، على مواصلة أنشطة التنقيب عن مصادر الطاقة شرق المتوسط وفرض خارطة وقواعد جديدة بالمنطقة، وتدخلت في الأزمتين السورية وشمال العراق والليبية، وساهمت في حسم نزاع “ناغورني كاراباخ” لصالح أذربيجان في مواجهة أرمينيا، واختبرت منظومة الصواريخ الدفاعية الروسية “إس-400” ضدا عن إرادة “الناتو”، تلقت في آخر أشهر السنة عقوبات فرضها عليها الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة.
عقوبات كلا الطرفين جاءت، في نظر متتبعين للشأن التركي، في حدها الأدنى، فواشنطن اقتصرت على حظر أي تصاريح جديدة لتصدير الأسلحة لتركيا ومنع مسؤوليها من زيارة الولايات المتحدة، فيما اكتفى الاتحاد الأوربي بعقوبات مخففة كانت بمثابة رسالة تحذيرية لأنقرة، ولم يفرض أي منهما عقوبات قاسية ومؤثرة، لاسيما على المجال الاقتصادي.
ويمكن القول إنه ولو أن تركيا تجنبت الأسوء بالانزلاق نحو أزمة كبرى كانت ستكون أشد وطأة على اقتصاد البلاد وموقعه الإقليمي، إلا أنها فقدت في وضع كهذا نقاطا مهمة في شراكتها الإستراتيجية مع الاتحاد الأوروبي، الذي عوض أن تبحث معه سبل تجاوز خلافات مستعصية وحادة مع بعض أعضائه (فرنسا واليونان) في أفق تسريع مسلسل الانضمام، أضحت بندا رئيسيا على جدول أعمال قممه، ولكن في شقه المتعلق ب”العقوبات”.
أما في ما يتعلق بالولايات المتحدة، فيبدو أن أنقرة ستطوي مع نهاية السنة الجارية، صفحة علاقاتها مع إدارة الجمهوري دونالد ترامب التي غلب عليها طابع “التوافق” في تدبير قضايا ثنائية و”التنسيق” في ملفات إقليمية عكست طموح أنقرة في اكتساب دور إقليمي أكبر، لترتسم معالم تعامل مختلف في ولاية جو بادين يصعب التكهن “بطبيعته”.
وتؤشر التصريحات والمواقف المعلن عنها طيلة حملة بايدن الرئاسية على أن المرحلة المقبلة قد تكون “صعبة” في مسار العلاقات التركية الأمريكية، على اعتبار أن الأخير بدا “صارما” بخصوص ملفات ثنائية وإقليمية بالغة الحساسية من شأنها توجيه الامور نحو مواجهة بين شريكين استراتيجيين في”الناتو”، وأيضا، دفع أنقرة إلى الانخراط في تقاطبات إقليمية جديدة على أكثر من جبهة، تؤ من بها نوعا من التوازن في علاقتها مع واشنطن.
وتبرز في هذا السياق، علاقات أنقرة بموسكو التي وإن لم تشهد، في مجملها توافقا سياسيا خلال هذه السنة في أبرز الملفات، إلا أن الفاعلين الإقليميين استطاعا تجنب أي خلاف حاد يؤدي إلى احتكاك مباشر، ولاسيما في سوريا وليبيا؛ وأيضا في ظل إدراك روسيا لدور تركيا المؤثر في المعارضة السورية والفصائل العسكرية التابعة لها، ودون إغفال الرغبة المتبادلة في تعاون اقتصادي ثنائي لتجاوز تأثيرات أزمة “كورونا”؛ وتأجيل التعاطي مع قضايا خلافية كالدعم التركي لأوكرانيا في قضية القرم ولأذربيجان في قضية إقليم ناغورني كاراباخ.
سنة 2020 شهدت، أيضا، الدعم التركي الكامل واللامشروط لأذربيجان في صراعها مع أرمينيا على إقليم “كاراباخ”؛ وقد كان دعما رسميا وشعبيا وعسكريا مكن أذربيجان من استرجاع وحدتها الترابية، وأنقرة من فرض نفسها كفاعل مركزي لا محيد عنه في تفاعلات جنوب القوقاز، ومن تحصين مصالحها السياسية والاقتصادية في المنطقة.
اقتصاديا، وعلى غرار باقي بلدان المعمور، لم تكن تركيا بمنأى عن التداعيات القاسية لفيروس “كورونا”، الذي عصف بمخططاتها الاقتصادية، بفعل التراجع الكبير في حجم صادرات البلاد نحو جميع الوجهات، ولاسيما الاتحاد الأوروبي، وفي عائدات السياحة وأنشطة النقل ذات الصلة بسبب قيود السفر لمنع انتشار الفيروس.
تأثير تراجع أداء القطاع السياحي على اقتصاد تركيا، الوجهة السياحية السادسة عالميا، كان كبيرا وموجعا، وهي التي كانت تخطط لاستقبال 58 مليون سائح سنة 2020، بعد انطلاقة موفقة للقطاع، باستضافة 1,8 مليون زائر خلال يناير الماضي فقط (+16,1 بالمئة مقارنة بالشهر ذاته من العام الماضي).
وقد كان وقع الأزمة كبيرا بالنظر إلى دور السياحة الرئيسي في تحريك عجلة الاقتصاد، وذلك من حيث مساهمتها في الناتج الإجمالي المحلي (12,1 في المئة سنة 2019)، وتوفيرها لعدد هام من مناصب الشغل (خمسة ملايين مستخدم)، ولكونها مصدرا مهما للعملة الأجنبية، فقد بلغت إيرادات القطاع 34,5 مليار دولار سنة 2019.
ويكشف تتبع أداء قطاع الصادرات خلال سنة 2020 المقاومة التي أبداها رغم الآثار السلبية ل”كورونا”، وذلك بفعل تدارك التأثير الذي تعرض له بعد الانحسار النسبي للوباء بين الموجتين الثانية والثالثة؛ وقد بلغت قيمة الصادرات التركية خلال سنة 2019 ما مجموعه 180,5 مليار دولار، فيما بلغت خلال التسعة أشهر الأولى من سنة 2020، 118 مليار و355 مليون دولار، معززة بصادرات قطاع الصناعات الدفاعية بـ 1,6 مليار دولار خلال ال10 أشهر الأولى من العام الحالي، بزيادة قدرها 10,4 بالمئة، مقارنة مع نفس الفترة من العام الماضي.
ومن الطبيعي أن يكون للاضطراب الحاد للمؤشرات الاقتصادية بفعل الوباء، إلى جانب التوتر الإقليمي المرتبط بأزمة التنقيب عن مصادر الطاقة شرق المتوسط، وتلويح الاتحاد الأوروبي بفرض عقوبات اقتصادية على أنقرة، تداعيات على قيمة الليرة التي تراجعت طيلة هذه السنة إلى مستويات غير مسبوقة وبوتيرة متسارعة، جعلت الليرة تفقد 23 في المئة من قيمتها.
هذا الضغط المكثف على الاقتصاد التركي جعل سلطات البلاد تقدم على العديد من التغييرات في المسؤولين على تسيير الشأن الاقتصادي، من بينها تعيين الوزير السابق ناجي آغبال، محافظا جديدا للبنك المركزي خلفا لمراد أويصال، واستبدال وزير الخزانة والمالية برءات البيراق بناجي أغبال.
وبغرض تخفيف انعكاسات الأزمة الاقتصادية والمالية على المشهد السياسي، ولاسيما شعبية الحزب الحاكم سارع الرئيس رجب طيب أردوغان إلى الإعلان عن مشروع إصلاحي جديد، يسعى إلى التشجيع على المزيد من الإنتاج والاستثمارات الجديدة وخلق وظائف إضافية، فضلا عن اعتماد أنظمة قضاء متطورة وأخرى تتعلق بحقوق الإنسان، بما يعزز الثقة في اقتصاد السوق وسيادة القانون.
وفي مواجهة هذه المشاكل الجدية والحيلولة دون تحولها إلى إشكالية بنيوية تهدد النجاح الذي راكمه الاقتصاد خلال العقدين الأخيرين، تتجه تركيا إلى تنويع شركائها الاقتصاديين وتعزيز الروابط مع قوى اقتصادية أخرى، كما يجسد ذلك توجه أول قطار شحن يحمل بضائع من تركيا إلى مقاطعة شيان الصينية، والذي قطع 8693 كلم في غضون 12 يوما، عبورا بقارتين (أوروبا وآسيا)، وبحرين (مرمرة وقزوين)، و5 دول (تركيا، جورجيا، أذربيجان، كازاخستان، الصين).
أيضا توقيع تركيا وأذربيجان اتفاقا لتمديد خط نقل الغاز الطبيعي من ولاية إغدير شرق البلاد، إلى إقليم نخجوان ذاتي الحكم التابع لأذربيجان، وذلك بعد استكمال مشروع خط “تاناب” العابر للأناضول، أطول أقسام ممر الغاز الجنوبي، لنقل الغاز الأذري لأوروبا عبر تركيا، والذي نقل 8,1 مليار متر مكعب من الغاز منذ يونيو 2018 وحتى اليوم.
على مستوى السياسة الداخلية، احتدم النقاش بين الفرقاء السياسيين حول العديد من القضايا، زادت من حدته الانتقادات الموجهة لتدبير الحكومة للتداعيات الاقتصادية والاجتماعية لوباء “كوفيد-19” الذي خلف انكماشا اقتصاديا حادا، وقرارات قيادة البلاد بشأن العديد من القضايا والنزاعات الإقليمية، من قبيل العلاقات مع الاتحاد الأوروبي ونزاع إقليم كاراباخ.
ومع أن الانتخابات الرئاسية مقررة عام 2023، إلا أن النقاش حولها لم يفتر طيلة السنة، وذلك في ظل سعي المعارضة للتوحد مبكرا خلف مرشح واحد بهدف تعزيز فرصها في الفوز بهذه الانتخابات المصيرية، التي تأمل من خلالها في إنهاء قرابة عقدين من حكم حزب العدالة والتنمية؛ كما أن كافة الأحزاب تستعد لسيناريو احتمال إجراء انتخابات رئاسية مبكرة في البلاد في ظل التحديات السياسية والاقتصادية التي تمر بها البلاد.
وتؤكد أوساط سياسية وإعلامية وجود إشارات على نية زعيم حزب الشعب الجمهوري المعارض كمال كليتشدار أوغلو وزعيمة حزب “الجيد” ميرال أكشنار الترشح للانتخابات الرئاسية لمواجهة أردوغان، وهو ما تلقاه حزبا العدالة والتنمية والحركة القومية ب”ارتيارح”، بالنظر إلى اعتقادهما ب”إمكانية حسم هذه الانتخابات بسهولة لصالح أردوغان”، فمنافسه كليتشدار أوغلو امتنع طوال الانتخابات الماضية عن خوض المعركة ومواجهة أردوغان ولجأ على الدوام لدعم مرشحين من أعضاء الحزب أو من خارجه، أما أكشنار فقد سبق لها أن سخرت معركة الانتخابات السابقة في مواجهة الرئيس الحالي.
> لمياء ضاكة (و.م.ع)