تابعت من خلال تقنية “زوم” مداخلة الباحث في أدب الرحلة الأستاذ نورالدين بلكودري الذي تناول كتاب”عبق المدائن العتيقة” للأديب المغربي إبراهيم الحجري، مركزا على عنصري الثقافي والذاتي من خلال توثيق الكاتب لأهم المحطات الهامة في زيارته للمزارات والمدائن العثيقة.
ويقول الباحث بلكودري إنه إذا كان المكان في أدب الرحلة فضاء متحركا لا تنفصل عناصره عن الرؤية الإبداعية للرحالة، فإن الكاتب إبراهيم الحجري تجاوز في رحلته الجانب المرجعي الرحلي للمزارات إلى الطابع الفني الجمالي، لأن المكان المسافر إليه تحول إلى مصدر إلهام، وإلى محفز عن الحكي والثقافة والذات وكل ذلك في إرتباط بعنصر الخيال مما سمح بتجاوز الواقع والإنزياح عن المرئي وحضر الغائب وتوارى الحاضر في عملية توليف بين الكائن والممكن، مما أغنى النص الرحلي وطبعه بملامح تخييلية رفعت من مستوى أدبيته وشعريته، حيث أن الرحالة لم يتعامل مع الأمكنة باعتبارها محطات عبور، لكنه تعامل مع تفاصيلها التي كشفت عن عناصرها الثقافية والجمالية، وذلك في تجاوز للرؤية التي تتعامل مع المزارات باعتبارها محطات طبيعية وعمرانية، لا تتجاوز حدود البصر، مما يحول الرحالة إلى سائح عابر لم يترك أثرا في المكان ولا أثرا لهذا الأخير في ذاكرته ووجدانه دون ملامح ابداعية وجمالية.
إن القيام بتصفح سريع لعناوين النصوص الرحلية الحاضرة في “عبق المدائن”، يمنح القارئ إشارات دلالية تؤشر على عناية الكاتب بالمكان من الناحيتين الجمالية والإبداعية والخيالية، ولقد ضمن الكاتب لهذه العناوين ما يحيل على الذات المسكونة بالذكريات والتاريخ والحضارة، ونذكر من العناوين “مساء الخير أيها النيل الأزرق”، ” الطائف مدينة الشعر والورد”، الشارقة ربيع الخرطوم”، ” ذكريات ليالي زرقاء”..” وغيرها من العناوين التي تحمل كثافة دلالية ورمزية تبث الشوق في روح المتلقي وتدفعه إلى الإقبال على اكتشاف المخبوء داخل النص الرحلي والسفر عبر التخييل الى المزارات البعيدة.
وأبرز الباحث نور الدين بلكودري في معرض مداخلته أن الرحالة تفاعل مع المكان بكل حواسه، والقارئ اكتشف هذا المكان من خلال الكلمة المسكونة بالمشاعر الفياضة والانفعالات، ووجد نفسه يحيى حياة جديدة عن طريق سفر رمزي، لكن رغم حالة
التصادي بين المرسل والمتلقي فإن السارد يكشف عن رؤى شخصية للرحالة
إبراهيم الحجري تختلف عن كل زائر، فاستنطاقه للأمكنة تختلف عن الآخرين. يقول الرحالة: “أبدا لن تكون نظرتنا للمكان موحدة” الرحلة ص 4. وفي هذا تأشير خاص في التعامل مع المزارات التي زارها، وفي ذلك تأكيد أيضا على قراءته الجمالية والإبداعية للمكان الذي لا يتعامل معه جغرافيا أو عمرانيا فقط، فإنما يحاوره ويستمد منه الخيالات والحكايات.
يتحقق السفر في الفترة
المعاصرة عن طريق وسائل النقل المتنوعة والمتطورة، تسهل على المرء قطع المسافات بسرعة فائقة، ويتم بذلك تجاوز محطات العبور، ويكون التركيز على مزارات وأمكنة الإقامة، ويتضح هذا الاهتمام في رحلة “عبق المدائن العتيقة” حيث إن السارد يعبر عن افتتان الرحالة بها، ويحضر عبر مجمل نصوصه عبارات كاشفة عن ذلك. يقول السارد: “كان المكان شاعريا مصمما بطريقة فلكلورية ” ص14
وتصبح بذلك الأمكنة مثيرة ومحفزة على القول، حيث تجاوز المرئي إلى الحفر في أعماق الذات الإنسانية التي لها أحلامها وهواجسها وخيالاتها: “إذا كان السفر هو نقل السفر نفسه” كما يقول السارد ص58 ، فإنه بذلك يعبر عن رؤية شخصية للرحالة الذي لا يسافر عبر جغرافيا الأمكنة فقط وإنما يسافر عبر دواخله إلى الممكنات والاحتمالات التي لا يكتشفها الوصف بل يمكن تلمسها في المنفلت من التعابير الذاتية المعبرة عن الحلول في المزارات والأمكنة، لأن روح
الإنسان تتجاوز ما يعيشه ماديا وما يحسه وجدانيا وعاطفيا، فتتحول المشاعر بالنسبة للرحالة إلى محطات إلهام واستحضار يقول السارد: “النزر القليل هو من يستطيع إدراك المقامية التي تضيق مع التقادم ومرور الزمن” ص43
ويقول في نفس الرحلة: “كنت أقرأ ملامح المقام وأستحضر تاريخه “ص 51
ويسهم الإلهام والاستحضار في إعادة تشكيل المزارات، وفق رؤية جمالية وفنية متجددة، ويعبر السارد عن درجة تأثير المزارات على وجدان الرحالة الذي لا تشده المشاهد بصريا وإنما تخترق قلبه وتهيج عواطفه.
يقول السارد في رحلة مكة: “فدموعك تفضحك وجوارحك تضعفك أمام سيد المقام”ص51 . فكل مقام يزوره الرحالة ينظر إليه نظرة شاعرية رمزية غنية بالذكريات والأحلام
والخيالات لأن صفة الكاتب المبدع لا تنفصل عن المسافر الهائم في أرض الله الواسعة، ويشير في نفس السياق إلى الرحلة الثانية إلى الشارقة، حيث شكل النخل عنصرا أحيى ذكريات طفولة الرحالة، وكان محط استحضار الشعر العربي الذي احتفى بالنخل، وذكر الرحالة في هذا السياق الشاعر مطيع بن إياس والشاعر عبداالرحمان الداخل والشاعر محمود درويش، هذا الأخير نذكر بقوله:
“علقوني على جدائل نخلة
واشنقوني فلن أخون النخلة”.
ويظهر من خلال هذا التمثيل إلى أي حد تلهم المزارات الرحالة وتدفعه إلى البوح الذاتي والتعبير عن مكونات القلب المفعم بالمشاعر الإنسانية التي وجدت فرصتها للانعتاق من أسرها خلال هذه الأسفار، إن تأمل المكان والحلول فيه لا يتحقق دائما بشكل ذاتي وفردي ولكن يمكن أن يكون مشتركا، خاصة إذا كان رفقة طرف مهووس بالجمال ومسكون بالمزارات. يحكي السارد وهو جالس رفقة الباحث المغربي محمد الزوبيري ويقول: “جلسنا على كرسي مقابل للبحيرة وغصنا في حديث شيق حول الزمان والمكان، وحول النخل والماء ..”ص68
يفرض المكان هيبته وسلطانه في كل الأزمنة والمواقف، وهذا يدل على ارتباط وثيق بين عملية المشاهدة والتفاعل الوجداني، حيث أن الحلول في الأمكنة لا يكون ماديا فقط بل روحيا.
يشار إلى أن رحلة “عبق المدائن العتيقة”، كتاب صدر في جزئه الأول عن دار إيديسيون بلوس بالبيضاء قبل سنتين، وهي جماع تجارب رحلية قام بها الكاتب إبراهيم الحجري في إطار شخصي أو ضمن مشاركاته في فعاليات عربية، وعما قريب سيصدر الجزء الثاني.
> عبد الله مرجان