كُنا على يقين أن النظام الجزائري على وشك الانهيار، وأن سياسة الحديد والنار لن تُمدد مِن عُمْر تحَكُم “الحرس القديم” في رقاب الشعب الجزائري، لكن أن يستنفر النظام الجزائري كل ضِباعِه السياسيين وذُبابه الإلكتروني من أجل الرد على السفير المغربي عمر هلال، ويتطاول بسمومه إلى رموز السيادة الوطنية المغربية بطريقة حاقدة تبتعد عن حِكمة الشيوخ وتقترب من تهور المراهقين السياسيين، فإننا نكون أمام حالة “نظام من ورق” تعود على شراء الولاءات والأصوات والأفلام والتقارير في الدهاليز وتحت الطاولة، ولم يتعود على الندية والمحاججة فوق الطاولة وأمام الملأ.
وبينما يعتقد جنرالات الجزائر أن الرفع من النبرة الصوتية هو دليل انتصار، نراه نحن هروبا إلى الأمام لا يمكنه أن يبرر كل تلك الهستيريا التي أصابت ساكني قصر المرادية لمجرد رد السفير المغربي بنيويورك “عمر هلال” على استفزازات رمضان لعمامرة وزير الخارجية في أول خروج له بعد تعيينه، خلفا لخلفه المعزول بعد هزيمته في فضيحة “غالي غيت”.
لقد حاول الضِباع السياسيون والذباب الإلكتروني في القُطر الجزائري الشقيق، تمطيط وتحوير مضمون رد السفير المغربي، وجعله الحصان الأسود الذي سيهرب نقاش الشعب الجزائري ومطالبه المشروعة وكذا تساؤلاته بخصوص طوابير الخبز والحليب واللحم والماء والكهرباء، من دون أن نتحدث على فضيحة عملية التلقيح ضد الكوفيد 19، التي كشفت مرة أخرى الغطاء على سود التدبير وجعلت بلد “سوناطراك” ينتظر حصته من “كوفاكس Covax” مثله مثل البلدان الفقيرة.
فكلام السفير عمر هلال جاء أولا ردا على استفزازات وزير خارجية “سوناطراك” الذي انحرف عن الأعراف الدبلوماسية بعدم احترامه لجدول عمل جلسات “منظمة دول عدم الانحياز” يومي 13 و14 يوليوز 2021 المخصص أصلا لدراسة تداعيات الكوفيد 19. وهي بالمناسبة ليست المرة الأولى التي تتعمد فيها الجزائر تسويق أطروحة عصابة البوليساريو رغم أنف المؤتمرين وأنف جدول الأعمال وأنف الدول المشاركة، مثلما حصل في الدورة السابقة لدول عدم الانحياز في ماي 2020.
كما أن كلام السفير عمر هلال لم يخلق واقعًا جديدا ولم يكتشف أي اختراع، بل أعلن فقط عن واقع قديم قِدم نشأة الدولة الجزائرية سنة 1962. وحتى نكون أكثر دقة، فالسيد السفير قام بتذكير المسؤول الجزائري بوجود “شعب القبايل” الذي يتوفر على حكومة منفى برئيس مقيم في فرنسا هو السيد “فرحات مهني”، وجمعيات ومنظمات بأوروبا ومنابر إعلامية ومدونين في شبكات التواصل ألاجتماعي.. كما ذكًره بأن الدفاع عن مبدأ تقرير المصير ليس مزاجيًا أو قَالَباً لصراع بالوكالة، لذلك فإن من حق سكان “منطقة القبايل” إعمال هذا المبدأ، ولم يتكلم السيد عمر هلال قط عن الانفصال أو الاستقلال، ذلك أن الأعراف الديبلوماسية المغربية لا تميل إلى تفضيل مبدأ الانفصال، سواء بالجزائر أو في غيرها.
وبما أن المناسبة شرط، فلا بأس من تذكير الضِباع السياسيين والذباب الإلكتروني ومصاصي “سوناطراك” بالمسارات السياسية والاجتماعية والفنية والرياضية لقضية “شعب القبايل”، وباستعمالنا لتعريف “الأمة” حسب أحد أقلام أطروحة البوليساريو والأستاذ السابق بالجامعة الجزائرية Maurice Barbier فإن الوصف قابل لأن ينتقل إلى “أمة القبايل”.
إن حديثنا عن مسار المطالب السياسية والهوية الأمازيغية لمنطقة القبائل، لا يدخل في زاوية ما لا يعلمه إلا الراسخون في العلم، بل هو مسار معروف برموزه ورواده وأيضا بضحاياه ومعتقليه ومنفييه. وهناك العديد من المحطات التاريخية الدالة على مطالب سياسية جعلت منطقة القبائل معقلا لمعارضة حقيقية وقوية لنظام العاصمة الجزائر.
ففي سنة 1963 أسس “حسين ايت احمد” وهو أحد قادة حرب الاستقلال، “جبهة القوى الاشتراكية” والتي دافعت عن الهوية الأمازيغية والديمقراطية وحمل السلاح ضد الدولة الجزائرية التي فرضت “الهوية العربية”، حيث تم قمع هذه الجبهة وصنف تابعيها بالانفصال. وسيعود مطلب الأمازيغية سنة 1980 بتنظيم مظاهرات الاعتراف بالأمازيغية “كلغة وطنية” وهكذا أصيب العشرات من الطلاب في عملية اقتحام لجامعة “تيزي وزو” فيما عرف “بالربيع الأمازيغي”، وصولا إلى “الربيع الأسود” في أبريل 2001 بعد مقتل طالب (18سنة) في مقر الدرك الوطني مما أشعل الغضب في كل مناطق القبائل الجزائرية، وتحولت الاحتجاجات إلى مظاهرة مليونية في 14 يونيو 2001 واجهتها السلطات بالحديد والنار وبحصيلة ثقيلة من القتلى حوالي 126 قتيلا والعشرات من الجرحى، وهي الأحداث التي قال بخصوصها تقرير اللجنة الوطنية في 29 يوليوز من نفس السنة بأن “العنف المسجل ضد المدنيين هو عنف حرب باستخدام ذخائر الحرب”.
الخصوصيات
الهوياتية “للأمة القبايلية”
يستند القادة السياسيون لمنطقة القبائل في رفع سقف مطالبهم السياسية على الدور الكبير الذي لعبته القبائل في حرب الاستقلال، حيث عُقد هناك أهم اجتماع لتحديد خريطة الحركة التحررية الجزائرية عُرف “بمؤتمر الصومام” سنتين بعد انطلاق الثورة الجزائرية؛ كما أن ثلاث أرباع (¾) ضحايا الثورة الجزائرية ينتمون الى منطقة القبائل.
وقد اختارت منطقة القبائل الأمازيغية عدم المشاركة في الحياة السياسية منذ سنة 2001 وهو ما يبرر المعدلات المرتفعة لنسبة العزوف في المنطقة خلال كل الاستحقاقات الانتخابية، بحيث وصلت النسبة في آخر انتخابات يونيو 2021 مثلا إلى 1 في المائة في بجاية والبويرة وتيزي وزو، بينما سجلت سنة 2017 نسبة مشاركة لم تتعد 18 في المائة في بجاية و17 في المائة في تيزي وزو وفق الأرقام الرسمية.
وقد عرفت سنة 2001 أيضا تأسيس “الماك” أو “الحركة من أجل تقرير مصير منطقة القبائل” والتي صنفتها السلطات المركزية “بالارهابية”. وفي 28 شتنبر من سنة 2017 أقدم السيد “فرحات مهني” على خطوة غير مسبوقة وذلك بتقديمه “لمذكرة من أجل تقرير مصير القبائل” بصفته رئيسا لحكومة المنفى للسيد أنطونيو غوتيريس الأمين العام للأمم المتحدة بنيويورك، مما جعل منه العدو الأول للسلطات الجزائرية.
كما يعتبر المسار الاجتماعي لمنطقة القبائل من بين المسارات التي أججت العلاقات مع السلطة المركزية بالجزائر، وهنا نُذَكِر فقط بأن منطقة القبائل تعتبر هي مهد الحراك الاجتماعي منذ فبراير 2019 وهي المؤطرة لكل المطالب الاجتماعية والسياسية ومن بينها تفكيك رموز النظام العسكري القائم، كما سبق ذلك رفع المنطقة لمطالب بتحسين الأوضاع الاجتماعية ونظمت في إطار مظاهرات قمعت أكثر من مرة مخلفة جرحى ومعتقلين، ومن جديد سيُحكم على عشرات المتظاهرين بالسجن بتهمة رفع العلم الأمازيغي، وكذا رفعهم لصور ضحايا “الربيع الأسود”.
ومن جهة أخرى، فقد شكل المجال الفني والرياضي إحدى ساحات الصراع بين منطقة القبايل والسلطات المركزية. حيث كان المنع والتضييق هو السائد ضد كل الفنانين المنحدرين من “أصول قبايلية” والذين واصلوا نضالهم انطلاقا من بلدان المهجر. لكن القمع الرسمي لم يمنع شباب الحراك من ترديد أغانيهم كشعارات في مسيراتهم من أجل تحريك لحماسة الشارع السياسي، وفي مقدمتها أغاني “معطوب الوناس” الملقب بـ “الثائر” والذي انتفض من أجله سكان القبائل بعد حادث اغتياله في يونيو 1998، وكذا أغاني “إيدير” الملقب بـ “سفير الأغنية القبائلية” والذي توفي سنة 2020.
ولا يتغنى شباب المنطقة باغاني رموزهم الفنية في المسيرات الاحتجاجية فقط بل أيضا في الملاعب الرياضية وبالضبط خلال مباريات “فريق شبيبة القبائل” الفريق الذي يعتبر واجهة سياسية قوية لمنطقة القبائل في صراعها مع “فريق مولودية الجزائر” الذي ارتبطت سمعته بقربه من اتجاه السلطات المركزية.
منذ تأسيس شبيبة القبايل سنة 1946 ولاعبوه يلقبون “بسفراء للقضية الأمازيغية”، ونعتقد أن الذاكرة الرياضية بالجزائر لم تنسَ بعد نهائي كأس الجزائر لسنة 1977 بين الشبيبة والمولودية بحضور الرئيس هواري بومدين وخمسين ألف متفرج، حيث لم يتوقف الجمهور القبائلي عن الصفير أثناء عزف النشيد الجزائري، رافعا صوت أغانيه وأهازيجه الأمازيغية. ومازالت الذاكرة الرياضية تحتفظ أيضا بذكريات أول لقاء بين الشبيبة والمولودية في أول بطولة بعد الاستقلال أو ما يُعرف بـ “قضية 107”.
لقد حافظ فريق الشبيبة على علاقة قوية مع جمهوره ومع آمال منطقة القبائل الأمازيغية، لذلك فإنه لم يكن بالفريق الرياضي العادي بل حامِل لقضية “شعب القبايل” ومُمَجدا لرموزه، وتمثل هذا الوفاء أخيرا في حمل فريق الشبيبة لقميص رياضي يُكرم المغني الثائر “الوناس معطوب” في مباراة نصف نهائي الكونفدرالية أمام فريق القطن الكاميروني في يونيو 2021.
إن التذكير بتاريخ منطقة القبائل وبخصوصيتها اللغوية وبرموز نضالها، ليس نسجا من الخيال بل هو واقع بلغة السياسة ولغة الحراك ولغة الفن ولغة الرياضة، لذلك لاحظ الجميع مبالغة الضِباع السياسيين والذباب الإلكتروني ومصاصي “سوناطراك” من خلال تلك الهستيريا غير المبررة، وذلك التطاول الغير مقبول على رموز السيادة الوطنية، لأن كلام السيد عمر هلال لم يكن مُنْشئا لواقع جديد، بل هو فقط تذكير بأن من كان بيته من زجاج لا يرمي الناس بالحجارة.
< بقلم: عبد الله بوصوف