في انتظار انبلاجك المرتقب من آخر العتمات، يكون ضعفك أحيانا هو مصدر قوتك، وما تفسده الحياة فى بعض الأحيان أو تكسره، قد يكون بداية لشخص جديد، سيتشكل بداخلك، يتوق للانخطاف بتجليك المبهر الذي يفيض حبا، ودفئا، وسكينة، فتضحي شخصا أكثر روعة، وقوّة، وجمالا، هناك في الأفق البعيد خلف تخوم المجهول، علك تبث ولعك المنسكب من أعماق روحك المعذبة .
فقط كن حقيقيا دائما، ليشع عالمك سحرا، وشعرا، ونثرا، وتغمر روحك الكون سلاما، وانسجاما، على بعد مسافة من فجر الأبدية، فتحصل على قوتك، حتى لو انهارت عليك الحياة، وسطعت نجومك، وشموسك، وصفعتك أنت كما أنت، وقد اخترت حقيقتك فوق كل اعتبار، وعبرت هوة المستحيل، التي تفصل بينك وبين ذاتك، كي لا تغترف المزيد من مداد الجراح .
وفي كفّك ألف ميل، ترى فيه تلك الغجرية خط الحياة، وكيف أن امرأة الحبر سكنت دواخلك، تلك الغريبة التي لا تعرف كيف تسنى لحبرها، وعطرها، وحرفها، أن يتسلل إلى خبايا قلبها المتعب ولم يراك .
وهي التي تأتي شهية كلما غابت عن ذاتها، وكأنها لقمة تـتمنع عن فم الجائع، حتى يوشك على الهلاك، فتأتيه مرة أخرى كآخر رمق للحياة، وآخر طوق للنجاة .
فقط أكتب لروحك نثرا مبللا بالدموع، وتلون من أجلها، وغازلها في نفسك، وأترك حقيقتها مبهمة يكسوها الغموض الساحر، وابتسم فقط ابتسم ليورق قلبك ربيعا، فتتسلل الأشعة الذهبية الساحرة بين جنباته، ولو صرت مهرجا من أجل هذا العالم الواهي، متقمصا ومزيفا لشخصية لا تشبهك، ستصفعك الحياة ألف مرة، وكم سيكون رهيبا ذاك الألم ساعتها، رهيبا جدا حد الجنون.
لتظل أنت وانعكاسك على صفحة الحياة، يلعب بك مزاجك، وتلعب بك أوهام دماغك فتصغي لصداك، وتحاول اقتحام كل باب لتحطم أصنام الاعتقاد بأنك عدم، وبضرورة انفصام شخصيتك أحيانا كثيرة.
فبالتجربة تصبح شخصا مجوفا يملأه الفراغ، خالي المعنى تعلق أناه بين أصابعه، وترتبط ملامحه على مرآة الروح لتسقط قيمه عند أول حافة عمرية .
أكتب الآن، وأنا العالقة بمرسمي، وشجوني وترانيمي، أدونني بكل اللغات، علها تنضح بريقها المدفون بوجه أشعاري، وقصائدي، والمعاني، أو علها ترسم صفاتي، وهفواتي، وانتكاساتي، وتخبر العالم أنه لا سيل أشد من دمعة سقطت سهوا على وجهي، لتقتلع منه ملامحي، وإنسانيتي، وسواد كحلي الذي أدون به نصوصي المقدسة، فأثقب رحم روحي، وأجدد عمادة ذاتي المولودة الناطقة بصمت، فلا يشهد علي ماض، ولا ينتظرني مستقبل مجهول على وسادتي، وكل الذي أعرفه أن الفرح وديعة بروحي، ما إن يأتي الحزن حتى يمسحه من صدري .
من المُزعج أن تكون ذا شخصية إزدواجية، منقسمة إلى نصفين، عاطفية لدرجة البكاء، وعقلانية لدرجة أنها تسخر من ذلك البكاء .
أشعر فعلا أن أكبر أزمة تواجهني عندما أنكسر، هي أنني أريد شطب انكساري بممحاة أبدية، تارة أفكر في ترميم حائطي النفسي بطلاء كاذب، يُخفى العيوب من دواخلي، وتارة أفكر في ترميم شقوق الروح، بدون أن يظهر أي خيط .
فيرافقني الليل، وضجر من مفترقات الروح، ليصير قلبي بذورا محملة من التراب، وانعكاسي على صفحة الحياة، وصباي، وشبابي، وما فات، وما كان، وما ضل الطريق، وما بقي بعقلي المغموس بالتصدع الفكري، يستغيث والقدر أصم لا يملك طوقا للنجاة .
حاضرة أنا في ذاتي، غائبة عن حياتي، وحياتي تأبى السبات، تناجيني، أم تناجي انعكاسي، لأناجيها بكل الحالات، حين تداهمني نسور الشوق، كأني أعانقها، وكأني لها مشرعة أبوابي، فليتها كانت حياة أخرى ..
لا فراق فيها ينهش دواخلنا، ولا أكتاف هشة نسقط منها علينا، وفي لحظات الوهن نتكئ عليها، كحياة نقية لا نتناول فيها الخداع، ولا نتذوق فيها مرارة خيبة أمل وخذلان، حياة لا نُجبر على المضي في طرقاتها وهي ليست لنا .
بل ونعيش سعادة مؤقتة تنقلب علينا لاحقاً، وحزن ينحر قلوبنا، حياة لا نتكلّف فيها عناء التحمّل أكثر مما نطيق، ولا نحتاج أن نصبر لننال ما نريد، أن لا نبذل فيها من أرواحنا ونتنازل لمن لا يستحق، ولا نجد فيها من يخدع مشاعرنا ذات ثقة..
نريد حياة لا ينفذ فيها رصيد شغفنا ولا تنطفئ فيها أرواحنا، ولا نقف بين أيامها حائرين في المنتصف، يكفينا أن تكون حقيقية واضحة، لا تُغلّفنا فيها أسئلة ولا أجوبة لها، حياة يغيب فيها الخوف ويحل محله الطمأنينة والأمان لينبثق فينا الأمل من ذاك الغموض، ويتراءى شعاعا أبيضا متلألئا صافيا كالبراءة، والطهر، دافئا غامرا كفيض من الحنان هادئا كالسكينة الأبدية .
فليتنا نعيش حياة أخرى بداخلنا تعني فعلا الحياة .
تخذلنا التذبذبات التي تأتي من أعمق نقطة في الروح، فتبدو الروح نفسها شاخصة بكلها، أمام كل ما تقوله وتبوح به، وحتى ما تخفيه وتتركه معلقا ما بين الصدر والحلق، يختنق مرارا، لا هو يريد أن يبقى حبيس القلب والروح، ولا هو قادر على الخروج إلى ما هو مجهول بالنسبة له..
ليتني فقط في المرآة أرى نفسي بوضوح في مكان آخر، بعيد عني أحدق بجداره الأبيض، فأرى ملامحي، أرى نفسي، وكيف أعيش، كيف أُفكر، وكيف سارت السنوات بدوني، كيف لا أبدو بخير..
كيف صرت جثة وكيف سلت روحي مني أو كيف انسحبت من روحي وأنا أسير على هامش وجودي، لا أنا قادرة على القفز في العدم، ولا أنا قادرة على اقتحام الحياة.
فيا أيها النور المتجلي، كيف أناديك لتخلصني من أصفادي، كي تريحني من بؤس هذا العالم المتوحش بداخلي، لأظل هنا واقفة في انتظاري …
فعلا أنا في انتظاري منذ الأزل، وسأبقى في انتظاري دائما وأبدا، إلى أن أغادرني، وألحق بي من جديد..
حتى وإن أخطأت، حتىٰ وإن فشلت، لن ينهار العالم بدوني، ولن تنطفئ الشمس بغيابي، ولن تحدث كارثة كونية تلتهم الأرواح، فلأهون علي، وأسامحني، امنحني المغفرة، لأتعلم من مواقفي، وأرتب طريقة تفكيري، لا أحد يعيش الحياة دون أخطاء أو لحظات دون فشل، جميعنا نتعلم، لنتطور، ونصبح أفضل حالا بداخلنا..
ندمج انكسارتنا فى ذواتنا، نروضها ولا نتجاهلها، ليسمع ذاك المكتئب فينا جرسا حزينا، تجعله روحنا نغمة رائعة في حياتنا التى لن تتوقف بهذا اللحن الرنان المزعج، بل ستظل هناك كيد تمتد من تلافيف الذات وانكسارات النفس، فتحاول جذبنا إلى دوامات مثلث برمودا التي تستوطن داخلنا فنتعثر ونختفي بثقل خطواتنا ونعالج عيوبنا النفسية وتشواهتنا الروحية بإزميل ذاك الصبر الواهي عله يخلصنا من انكسارات ظهرنا الذي تحدب مع الزمن فنرمم انكساراته بخيوط من ذهب التصالح والرضا والأمل والمحبة ..
بقلم: هند بومديان