-7-
من دواعي العرفان بالجميل والجمال الإبداعي في مجال الترجمة والنقل والتعريب لأصحاب الفضل الأول من أهل الكتاب المترجمين الأقدمين والمحدثين الماهدين الأولين، المتكلمين والملمين بألسنة الأعجمين على حظٍ وحدٍّ وقدرٍ واحدٍ من الثناء والتقدير والامتنان سواء. ولكن النقلة والمترجمين من الفرنجة، رغم ما لهم من الفضل في نقل الآداب الغربية والروسية بالأخص، لم تسلم مترجماتهم الجيدة والممتازة حقا للأدب الروسي، من عدة أخطاء ومساوئ ومآخذ وعيوب، أشرت إليها في بعض مقدمات الترجمات وأكثر من مقال ومقام وحوار صحفي وإذاعي وتلفزي.
من أكبر تلك العيوب :الفرنسة أولا بدلا من الروسسة.
إذ تعمد الترجمة الفرنسية الحرة النقل إلى تحويل كل شيء في الجسد الروسي النصي والشخصي إلى فرنسي، فتحذف منه وتضيف إليه وتتصرف فيه كما يحلو لها وفق عرقها وذوقها الثقافي، وتجرده وتمدده فوق سرير بروكوست قاطع الطريق الأسطوري الشهير، وتمعن فيه بترا إذا كان عضو منه أطول من السرير وتمطيطا إذا جاء شلو منه أقصر من السرير الفرنسي الوثير، وهيهات أن تسلم روح الجسد النصي والشخصي من التشويه والتحريف إذا لم تُرهق وتُزهق من كثرة التجميل بالمساحيق والأصباغ والتنميق والتزويق والنقل من الوجه الأصلي الروسي إلى الشكل الفرنسي، الذي يبدو بالفعل وجها وسيما ونصا جميلا وشخصا أنيقا ولكن قد لا يرتضيه لنفسه صاحبه إذا رآه بعين الحطيئة القائل عنه وله:
! أرى ليَ وجها قبح الله وجهه، وقُبح من وجه وقُبح حاملُهْ
ومهما يقل جهابذة العلم في مثل هذه الترجمة القائمة على”
الفرنسة بدلا من الروسسة” ومهما يكن جمالها وتعليلها وتأويلها فلا يمكن قبولها من صاحب الاسم نفسه، إذا نسخ ممسوخا، ونودي به محرفا عن نطقه وأصله ورسمه الروسي.
أليس في الإمكان أبدع مما كان بتعريب الاسم الأعجمي على الأقل بأسلوب الاقتراض أو “بحَرْفَنَتِهِ وحَوْرَفَتِهِ ونَقْحَرَتِهِ” ونقله الحرفي وفقا لأصله وطبقا لنطق أهله به، تماما كلفظ أهل القريض في كتابة البيت الشعري وتقطيعه العروضي.
هل يمكن أن تلبي النداء شخصية روائية روسية إذا سمعت اسمها “أكولكا” محرفا ومنحولا ومنقولا إلى ” أسيلين” acyline؟
وماذا تقول الطفلة البطلة “نيتوتشكا نيزفانوفا” الحاملة الرواية اسمها عنوانا إذا رأته مزيدا وملحونا فيه على النحو التالي: “نيزفانوفنا”؟ وهل يستسيغ الذوق الروسي أن يطلق على أرغفته الصغيرة _ калач_ “كالاتش” اسم “كرواسان” croissants
و”هلاليات” في ترجمة عربية “مفرنسة” وهي أرغفة على شكل قفل دائرية ومضفّرة ومقوسة وتسمى “السميطة”
في لسان العرب الطويل! وهل يقبل الكاتب أن يُحرف كلمه عن مواضعه وأن يُتصرف فيه كأن يقول: “سكران مثل
سويدي” فيصير” سكران مثل بولندي” أو “مثل برميل” ويُشار في هامش الصفحة نفسها إلى الأصل الروسي! وما الداعي إلى تغيير حتى أسماء الكلاب: مثل “شاريك” يترجم اسمه إلى “بولو boulot لا لشيء إلا لأنه مشتق روسيا من “شار” – كرة boule فنقل فرنسيا إلى بولو، والغريب أنه يذكر داخل النص الفرنسي بالاسمين معا مرة شاريك وبولو مرة أخرى. تماما كما في جملة وردت في مسرحية: الفارس البخيل Скупой рыцарь” “_ لبوشكين على النحو التالي: “مثل العبد الجزائري _как алжирский раб
حذف الجزائري من المتن الفرنسي ولكنه أثبت في هامشه! فما الحكمة من هذا التغيير والميز بين سكر سويدي وآخر بولندي؟ ولم الإصرار على إفراغ النص الروسي من محتواه الشخصي، بفرنسة كل شيء حسب الذوق اللساني الفرنسي الخاص. ولا يكتفي هذا الأخير بحذف جمل ضرورية بل يضيف جملا أخرى لا جدوى منها، فإذا كانت عيناها واسعتين قيل إنهما مثل “بوابة العربات aussi grands que des portes cochéres» وإن قيل “إنه يكذب في كل ذلك” زيد عليها “مثل قالع الأضراس” comme un arrangeur de dents
…………………………………..
-يتبع-
في إصدار جديد يعرض قريبا – بعنوان:
“من دروس الأدب الروسي”
> بقلم: إدريس الملياني